"لم أعد شاعراً لأني لم أعد مجنوناً"
يمكن لهذه العبارة ان تلخص تجربة رامبو في الشعر والحياة على السواء. من هنا السحر او الجاذبية التي تمارسها تجربته على الاجيال المتلاحقة من الادباء حتى الآن. فاسطورة رامبو لم تنطفىء على الرغم من سيل الكتب والمقالات التي أُلِّفت عنها. لقد ظل فيها شيء ما يستعصي على التفسير. ولعل البراءة الأصلية، او البراءة المطلقة التي يتحلى بها شعره هي السبب في ذلك. لكن ليت رامبو ظل مجنونا لعدة سنوات اضافية فقط. فعمره الشعري لا يتجاوز الاربع او الخمس سنوات. من يصدق ذلك؟ ومع ذلك فقد ملأ الدنيا وشغل الناس منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى اليوم. ما الذي كان سيحصل لو انه ظل مجنونا لمدة اربع او خمس سنوات اخرى؟ اما كان سيضيف الى الشعر قصائد جديدة قلّ ان يجود بها الزمان؟ ليته لم يعقل، رامبو. او ليته لم يعقل بمثل هذه السرعة...
فهو بمجرد ان استيقظ على نفسه ورأى حجم المغامرة الجنونية التي انخرط فيها مع فيرلي والانعكاسات المدمرة لهذه المغامرة على حياته الشخصية راح يستيقظ ويستشعر الوضع. راح يشعر بالمسؤولية ويصبح ناضجا. وبدءا من تلك اللحظة انتهت البراءات الاصلية، وانتهى الشعر. ثم ابتدأت حياة جديدة قائمة على الحسابات المادية والتفكير بالمستقبل الشخصي وتأمين العيش، بل وتكديس المال والذهب اذا امكن. وهكذا انتهى الشعر لكي تبتدىء الحياة، او انتهى الجنون لكي تبتدىء الحسابات العقلانية.. ولكن أليست حياته الثانية التي سكت فيها صوت الشعر هي مغامرة جنونية ايضا؟ أليست بحثا عن الذات والمجهول من خلال المغامرة في اصقاع الارض المختلفة، من اندونيسيا الى عدن وبلاد العرب؟ بمعنى آخر: ألم يعش رامبو حياته شعريا حتى بعد ان تخلى عن كتابة الشعر؟. وفي كل مرة كان يكتشف منطقة جغرافية معينة ألم يكن يحلم فورا في اكتشاف ما وراءها؟...
وهكذا ظل رامبو يركض وراء المجهول، وراء الافق الذي لا ينجلي الا عن أفق، حتى سقط صريعا وخانته قدماه. كان رامبو يبحث عن الدهشة، عن المفاجأة، عن البراءة في هذا العالم. ولم يكن يشبع في البحث. كان مهووسا بالمطلق: مطلق الحياة والوجود. والهوس بالمطلق له نتيجة محتومة في نهاية المطاف: معانقة الموت. فالموت هو المطلق الذي لا مطلق بعده، وهو نهاية المشوار والطريق. الموت هو المجهول الوحيد والاكبر الذي ينتظر كل انسان. والشعر بمعنى ما هو ايقاف، او تأخير للحظة الموت. الفن ـ او الابداع بشكل عام ـ هو وحده القادر على مصارعة فناء الموت، على تحديد، على منازلته وجهاً لوجه. ذلك ان الشعر يبقى بعد الموت، وبخاصة اذا كان في حجم شعر رامبو او بودلير، وهولدرلين، الخ... في كتابه الجميل والرائع عنه يقول "إيف بونفوا" بما معناه: لم يقبل أبداً بان يبيع روحه، رامبو. وعلى الرغم من الظروف الصعبة وضيق العيش والفقر فانه ظل مصرا على الحرية الحرة. ظل مهووسا بالحرية كمطلق او كأفق للوجود: افق تبدو الحياة بدونه لا معنى.
ومصطلح "الحرية الحرة" هو من اختراع رامبو، ينبغي الا ننسى ذلك. فهو يقول في احدى رسائله الى استاذه ايزامبار: لا ازال مصرا على اختيار الحرية الحرة، على التعلق بها، على معانقتها. ثم يضيف ايف بونفوا قائلا: "ان عظمة رامبو تكمن في انه رفض ذلك القليل من الحرية الذي كان متوافرا في عصره وبيئته، وذلك لكي يشهد على استلاب الانسان في الوجود، ولكي يدعوه الى الانتقال من بؤسه المعنوي، الى المجابهة التراجيدية للمطلق. وهذا القرار الذي اتخذه بالاضافة الى صلابته واصراره عليه هما اللذان يجعلان من شعره الشعر الاكثر تحريرا في كل تاريخ اللغة الفرنسية، وبالتالي واحدا من اجمل ما شهدته هذه اللغة.". لقد رفض رامبو ان يكتفي بالحرية المحدودة او الضيقة التي كانت ممكنة في مدينة "شارفيل" حيث ولد. رفض ان يعيش كما عاش ابناء قريته او مدينته. وراح يغامر في مساحات العالم الشاسع بحثا عن الحرية الحرة: اي عن الحرية المطلقة في الواقع. ولكننا نعلم ان الحرية المطلقة شيء خطر، ونهايتها الموت. لقد كان رامبو يبحث عن حتفه دون ان يشعره كان مستعدا لان يغامر بالحياة كلها من اجل لحظة انعتاق، او لحظة حرية، او لحظة ابداع شعري. كان يريد ان يرى ما لا يُرى. وكان مستعدا لان يدفع الثمن. وقد دفعه باهظا. ولكن النتيجة كانت هذه القصائد الخالدة التي تبقى على الدهر.
لقد خسر رامبو الحياة، ولكنه ربح الشعر. وفي اثناء ذلك رأى ما لا يُرى، سرق النار، واحترق كما تحترق الفراشات الجميلة في فصل الربيع. ما معنى الشعر بدون براءة مطلقة، بدون صدق مطلق؟ ولماذا يستمر بعضهم في كتابة الشعر حتى بعد ان فقدوا الحد الادنى من البراءة ان لم نقل اكثر من ذلك؟ شكرا لك، آرثر رامبو. فقد اعطيتنا درسا بليغا في الامساك عن الشعر: اي في احترام الشعر. وصمتك كان ابلغ من كل شعر..
فيما يخص نظرية "الرائي" الشهيرة يقول ايف بونفوا: ما الذي يقصده رامبو بذلك المجهول الذي يريد ان يكتشفه، ان يراه؟ وهو مجهول يبني عليه كل نظريته الشعرية. فهو يقول حرفيا "بان على الشاعر، ان يكون رائيا، ان يجعل من نفسه رائيا. والشاعر لا يتوصل الى الرؤيا الا بعد ان يمارس خلخلة لكل حواسه: خلخلة طويلة، هائلة، ومتعقلة في آن معا. وينبغي على الشاعر ان يجرب كل انواع الحب والعذاب والجنون..." ولهذا السبب انخرط رامبو بمجرد وصوله الى باريس في انواع شتى من التجارب الحسية والجسدية: كالشراب، والجنس، والكحول، وحتى المخدرات. وعاش بالتالي تجارب حدّية، او تجارب قصوى متطرفة لكي يعرف الى اي مدى يمكنه ان يذهب مع نفسه، ولكي يرى اشياء جديدة من خلال هذه الخلخلة الشمولية. ولكنه دفع ثمن هذه الحياة الصاخبة (التي اتنهت باطلاق النار عليه من قبل فيرلين) غاليا كما نعلم. وسجل ذلك في ديوانه الشهير: فصل في الجحيم. وبعدئذ تاب عن الحياة المخلخلة والشعر، بل وتنكر للمرحلة نهائىا وراح يحتقر حتى شعره ويعتبره سخافات صبيانية لا تستحق الذكر.. كان ذلك فيما بعد عندما "عقل" واصبح تاجرا في عدن لا هم له الا جمع المال والذهب وارضاء امه وعائلته او اقناعها على الاقل بانه قادر على النجاح في الحياة وتأمين المستقبل. ولكن ما هو هذا المجهول الذي كان يريد ان يراه؟ هل يعني به استكشاف اجزاء جديدة في العالم لم يكتشفها بعد؟ هل كان يؤمن بوجود عالم آخر غير العالم الطبيعي الذي نراه ويريد ان يتوصل اليه عن طريق اللغة الشعرية الجديدة، او عن طريق الخلخلة الجنونية للحواس؟ لا ريب في انه ككل المبدعين الكبار كان عرضة للهلوسات واحلام اليقظة والاشياء الخارقة للعادة. ولولا ذلك لما استطاع ان يتوصل الى هذه الابيات الشعرية التي تمارس تأثيرها المغناطيسي او السحري على جميع القراء. ولكنه كان دهريا اكثر مما نظن، ولم يكن يؤمن بوجود كائنات اخرى او عالم آخر غير عالمنا هذا. كان فقط يكتشف علاقات جديدة لا تستطيع العين المجردة ان تكتشفها او ان تراها. وكان يتوصل اليها عن طريق الخلخلة الجنونية، او اللغة الشعرية الجديدة التي تفكك العلاقات المنطقية بين الاشياء. يقول مثلا: "لقد عوَّدت نفسي على الهلوسات البسيطة: كنت ارى بكل بساطة مسجدا محل مصنع، مدرسة طبول مصنوعة من قبل، عربات خيول تجري على دروب السماء، صالوناً في نهاية بحيرة..."
هنا تكمن الحداثة الشعرية التي دشنها رامبو واخذها عنه جميع الشعراء فيما بعد (بمن فيهم الشعراء العرب بالطبع). فهو لم يخلخل حواسه، ولم يغامر بتركيبته النفسية، او حتى بصحته العقلية، إلا لكي يكتشف أشياء جديدة، لكي يرى ما لا يرى في الحالات الطبيعية للذهن. لكي يعيد تركيب الامور بطريقة اخرى. ولكن العملية خطرة: فقد تؤدي الى الجنون الكامل في بعض الاحيان. وعندما غامر رامبو الى اقصى حد ممكن وشعر بالخطر تراجع وسكت. ولكنه في اثناء ذلك كان قد كتب بعضا من اجمل قصائد الشعر الفرنسي، بل والعالمي. هكذا نجد ان عملية الخلخلة ليست مجانية، او ليست مقصودة لذاتها، وانما تهدف الى شيء آخر يتجاوزها. وقد جربها قبله بودلير وعرف الى اي مدى يمكنه ان يذهب، وكيف ينبغي ان يتوقف عند حد معين والا صعقته الرؤيا فاحترق او اختل نهائىا.. لنستمع الى هذه الابيات الاخيرة من "فصل في الجحيم":
وداعـاً
ها هو الخريف يخيم! ما اسرع ما ينقضي الوقت! ـ ولكن لماذا نتحسّر على الشمس الأبدية، اذا كنا منخرطين من اجل اكتشاف الوضوح ـ بعيدا عن الناس الذين يموتون على الفصول.
الخريف. قاربنا المرتفع في الضبابات الجامدة ينحرف باتجاه ميناء الفقر المدقع، والشمس الهائلة في السماء مبقعة بالنار والوحل. آه! يا للاثواب الرثة الفاسدة، والخبز المبلل بالمطر....! واذن فلن تنتهي هذه الغولة الملكة على ملايين النفوس والاجساد الميتة التي ستحاكم! لا ازال اتذكر عندما كان جلدي منهوشا بالوحل والطاعون، والدود يملأ شعري وتحت الإبط واكثر من ذلك دودة كبيرة في القلب، مستلقية وسط مجهولين بلا عمر، بلا عاطفة... كدت اموت بذلك... يا لها من ذكرى شنيعة! اني امقت الفقر المدقع.
واخشى الشتاء لانه فصل الراحة!
ـ احيانا ارى في السماء شواطىء لا نهاية لها، مغطاة بأمم بيضاء في حالة فرح. قارب ذهب كبير يقف فوقي، يلوّح براياته المتعددة الالوان تحت نسمات الصباح. خلقت كل الاعياد، كل الانتصارات، كل الفواجع. حاولت اختراع ازهار جديدة، كواكب جديدة، غرائز جديدة، لغات جديدة. وتوهمت امتلاك قدرات خارقة للطبيعة. ولكن! ينبغي علي الآن ان ادفن خيالي وذكرياتي! وهكذا تبخًّر مجدٌ جميل لفنان وحكواتي!
انا، انا الذي اعتقدت باني ساحر او ملاك، معفّي من كل التزام اخلاقي، عدت الآن الى الارض الصلبة، مع واجب ينبغي ان ابحث عنه، وواقع مر ينبغي ان اعانقه! يا لي من فلاح! آه من سذاجتي!.. هل خدعت؟ وهل الرحمة اخت الموت بالنسبة لي؟
اخيرا فاني اطلب المغفرة لاني تغذيت من الكذب. ولننس كل شيء. ولكن لايد صديقة تمتد نحوي...
هشام صالح - (منتدى الكّتاب)
_________________