فضاء الإبداع
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

فضاء الإبداع

هذا فضاء للجميع فدعونا نحلق معا في أفق الإبداع
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 «الأســـــــــــــوار» ....... فصل من رواية جديدة لمحمد البساطي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
دكتور : محمد ربيع هاشم
Admin
دكتور : محمد ربيع هاشم


عدد الرسائل : 1663
العمر : 53
الجنسية : مصر
تاريخ التسجيل : 12/05/2008

«الأســـــــــــــوار» ....... فصل من رواية جديدة لمحمد البساطي Empty
مُساهمةموضوع: «الأســـــــــــــوار» ....... فصل من رواية جديدة لمحمد البساطي   «الأســـــــــــــوار» ....... فصل من رواية جديدة لمحمد البساطي I_icon_minitimeالجمعة 15 أغسطس 2008, 11:12 pm

نقلا عن جريدة البديل عدد 15/08/2008

ذكرتني حكاية شلبي عن شلة الرائد من المساجين بحكاية أخري سمعتها في السجن من شهر، لم أفلح في جمع كل خيوطها، فما زالت أشياء صغيرة تنقصها. الحكاية أن رائد المعتقل أراد علي ما يبدو أن يخدم. وربما لم تعرف إدارته الرئيسية ما ينوي عمله، هو البعيد، في المنفي كما يقول، سمع شذرات من العاملين هناك ورأي أن يخدم، واستعان بمسجون لتنفيذ ما رآه. لابد أن حارسه الخاص من قام بالاختيار، فهو يعرف أغلب المساجين، ويتبادل معهم الكلام. كان المسجون معروفاً بقوته البدنية، وكان يستطيع بكفه أن يكسر قالب طوب، يسمونه "أبو كف"، وكان المساجين يودون لو رأوا عراكاً بينه وفارس، غير أن الاثنين لم يسعيا لذلك، وكانا يعالجان مشاكلهما بسهولة. لم تكن لفارس قوة ذراع أبو كف غير أنه كان ماهراً في استخدام المطواة، يخرجها في لمح البصر من ملابسه. لا يدري أحد أين يخفيها، وحتي في التفتيش، ورغم قيام الحارس بتحسس كل ملابسه لا يعثر عليها، وربما كان يلمسها ويسكت.


والرائد قابل مأمور السجن في مكتبه. قال لي حارس المكتب إن كل سمعه كان كلام المأمور فصوته مرتفع:
ـ ما أقدرش أقول لك لأ. إنما أنا معرفش حاجة. ولا انت قلت لي حاجة. عندك المسجون خده لمكتبك. ليلة ليلتان موافق. أكتر من كده أعلن عن غيابه. أنتم بتوع الأمن فيه اللي يحميكم. إنما إحنا..
عبر أبو كف الحاجز إلي مكتب رائد المعتقل الذي طلب له كوكاكولا. ولابد أن أبو كف خاف وارتعش، ومن ذعره اكتفي برشفتين، واعتذر بمعدته. سأله الرائد متلطفاً:
- مالها معدتك؟
- شوية كده. بتروح شمال ويمين.
- تلاقيها نسيت الكوكاكولا.
- الكاكولا وغيرها يا أفندم.
- أنا عايزك في حكاية بسيطة وسهلة. حاتقضي لك ساعتين تتفسح وتشوف الدنيا وترجع. مين عارف يمكن أحتاجك في عمليات تانية. المهم اللي بينا يفضل بينا. لأنه عيب يخرج.
ـ تحت أمرك يا أفندم.
ـ المطلوب تضرب واحد علقة بدون كسور أو عاهات.
ـ يبقي حزام جلد.
ـ كويس إن دماغك بتشتغل. علقة إنما سخنة. شوف.
لم يسمع الحارس الخاص بعد ذلك شيئاً. فالرائد خفض صوته كثيراً. واقترب برأسه من "أبو كف"، وراح يرسم علي ورقة بيده. وربما كان يشرح له العنوان.
أبو كف خرج من المكتب مشدوهاً. يتلفت وراءه، ويسأل الحارس الذي رافقه إن كان أحد يناديه؟ والحارس يتعجب من حاله ويقول:
ـ ومين حايناديك؟
الحارس يريد أن يعرف ولا يستطيع أن يسأل. في النهاية قال:
ـ مشوارك بعيد؟
قال أبو كف وقد أصبح حذراً:
ـ أبداً.
ارتدي ملابس مدنية جاء بها الحارس. وكان هناك حزام عريض بالبنطلون تحسسه بأصبعه ليختبر ليونته، وقبعة أيضاً. ضحك حين رآها:
ـ تغطي الصلعة.
قال الحارس: هدوم السجن عندي لما ترجع. حاستناك بره أمام الباب.
ـ وتعرف ميعاد رجوعي ازاي؟
ـ سيادة الرائد قال لي إنك حاتكلمه بالتليفون. صح؟
ـ صح.
ـ تقول له تمام يا أفندم. صح؟
ـ صح؟
ـ واحسب بقي الوقت بعد التليفون. وتلاقيني منتظرك.
ـ كلام سليم.
رمق الحارس بطرف عينيه، ربما بدا علي وجهه مدي ما يعرفه. الآخر أحس بنظرته وتصنع اللامبالاة.
خرجا من المعتقل. سارا قليلاً إلي الطريق الممهد. تذكر أبو كف أنه نسي أن يأخذ نفساً عميقاً لحظة خروجه. فال طيب كما سمع. ويغسل رئتيه بالمرة.
تاكسي مغلق كان واقفاً. أعطاه الحارس رخصتي السيارة والقيادة وتحقيق الشخصية، ومفتاح التاكسي. قال حين رآه ينظر إلي البطاقات المغلفة بالبلاستيك:
ـ كلها مضروبة.
ـ واسمي؟
ـ اسمك زي ماهو. خايف عليه.
ـ تغير اسمك. مصايبك تكتر.
ـ منكم نستفيد. سرعتك تبقي معقولة.
ـ صح الكلام.
أبو كف كان يعمل علي تاكسي في أيامه القديمة، وصدم امرأة وماتت. أخذ حكم قتل خطأ خمس سنين، أمضي منها ثلاثاً. قال في التحقيق إن سرعته كانت هادئة. والخطأ من المرأة. هي سمينة، مدت قدمها لتصعد الرصيف المجاور. قدمها لم تكن ثابتة. وربما ثقل الجسد أكثر مما تتحمله، حين بدأت في رفع قدمها الثانية اعتبرها صعدت وزاد من سرعة السيارة، في نفس اللحظة هوت المرأة علي ظهرها أمام السيارة. لم يكن هناك بين الشهود من رأي صعودها إلي الرصيف ولا حركة قدميها.
كان متزوجاً من عام. وامرأته زارته في السجن. وقالت إنها حامل. عمل لها توكيل لتسحب من حسابه في البنك. تحويشة عمره ليشتري التاكسي. في الزيارة التالية سألها عن الحمل. قالت:
ـ الدكتور كان قال لي حامل. في المرة الثانية قال الحمل كاذب.
هي حلوة. يشتهيها دائماً. كلما مر قريباً من البيت يصعد. يضاجعها ويمضي.
صعد إلي التاكسي وأدار المحرك. الصوت الناعم. هز رأسه للحارس الخاص وانطلق. الآن يستطيع أن يراها من الداخل علي راحته. موديل جديد. عمرها ثلاث سنين. فتح الراديو. أم كلثوم، أغنية يحبها "هلت ليالي القمر". فتح التابلوه. علبة سجائر كاملة وولاعة. النوع الذي كان يستخدمه. الزمن القديم يعود. وزجاجتا كوكاكولا. جميل. جميل. واحدة في الذهاب. وواحدة في العودة. حضرة الرائد لا يفوته شيء. ابن أصول بصحيح. وساندوتش. لحم بفتيك بالسلطة. من خارج السجن طبعاً. ربما تم إعداده في بيت الحارس. لابد أنه أكل نصفه وجاء بالنصف الآخر. الماء لا يفوت علي عطشان. الحارس واللي زيه لا يأكلون غير اللحم بالعظم. إيه يا أبو كف الحكاية؟ شغل دماغك. كل ده عشان أضرب واحد. وأسأله:
ـ والضرب يا أفندم؟
ـ ما تسألش.
ـ حاضر.


عدل سابقا من قبل دكتور : محمد ربيع هاشم في الجمعة 15 أغسطس 2008, 11:18 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://poems.mam9.com
دكتور : محمد ربيع هاشم
Admin
دكتور : محمد ربيع هاشم


عدد الرسائل : 1663
العمر : 53
الجنسية : مصر
تاريخ التسجيل : 12/05/2008

«الأســـــــــــــوار» ....... فصل من رواية جديدة لمحمد البساطي Empty
مُساهمةموضوع: رد: «الأســـــــــــــوار» ....... فصل من رواية جديدة لمحمد البساطي   «الأســـــــــــــوار» ....... فصل من رواية جديدة لمحمد البساطي I_icon_minitimeالجمعة 15 أغسطس 2008, 11:13 pm

متسألش. ماشي. إنما بفتيك وكوكاكولا وسجائر؟ الحكاية المستخبي فيها كثير. كله يبان في وقته، افتح زجاج الشباك. وتسند عليه بذراعك. وفي يدك زجاجة الكوكاكولا. تشرب وتشرب. ترمي الفارغة. من الشباك زي أولاد الناس.
شوارع القاهرة. يعرفها ويحفظها. يسير في الشوارع الجانبية بعيداً عن الزحام. لمح امرأة تغادر مدخل عمارة يرافقها رجل. أول امرأة يراها من سنين. عودها الراقص. تهبط الدرجات الخارجية. واحدة. واحدة. رجرجة صدرها. الجيبة الضيقة قماشها خفيف يبرز ثنايا ردفيها. ساقها الطويلة. تمدها. تتحسس درجة السلم. الرغبة تسري في جسده. يده علي الدركسيون ابتلت بالعرق. جففها بالبنطلون. قلل من سرعته ليملأ عينيه منها.
صلت للرصيف الذي تجمعت مياه أمامه. خطوة وأخري، تبحث عن أرض جافة لتنزل إلي الشارع. شعرها الطويل مبعثر علي كتفيها. فجأة أطلق سرعته. ورأي الرذاذ يغرقها والرجل يقفز بعيداً. تمهل في سيره. شرب زجاجة الكوكاكولا الثانية. نسي حضرة الرائد المصروف. ربما لا يريده أن يتوقف ويشتري. بحث في درج التابلوه. فكة صغيرة للبقشيش. ليكن. تكفي. اشتري من كشك علي جانب الشارع زجاجتي كوكاكولا وثلاثة أصابع عسلية، حلواه المفضلة في صغره. هو يعرف عنوان الفندق الذي يسهر فيه الزبون، وقال ذلك للرائد. وكأنه لم يقل شيئاً. استمر في شرحه، وأعاد الشرح، ورسم علي الورق موقع الفندق والمكان الذي ينتظر فيه.
وقف أخيراً، ظل داخل التاكسي. البعض كان يطلبه. يعتذر بأنه ينتظر زبوناً في الفندق. المشكلة التي قد تواجهه لا يعرف لها حلاً. ربما ركب الزبون مع واحد من أصحابه. ويكون عليه في هذه الحالة أن يتبعهما أو يذهب لينتظره أمام بيته. الرائد أعطاه العنوان:
ـ ده احتياطي.
احتياطي. ماشي. يصعد إلي الشقة ويعطيه العلقة هناك. ولو رآه أحد؟ والبواب؟ وقد يعلو صراخه فلا تكتمل العلقة. الأفضل أن يخرج وحده من الفندق ويركب معه. لا توجد تاكسيات أخري واقفة.
رآه خارجاً من بوابة الفندق. يهبط درجات السلم. نفس الأوصاف التي أعطاها له الرائد. قصير، نحيل. ونفس موعد الخروج. الثامنة مساءً. تقدم بالتاكسي حتي حاذاه. قال:
ـ تاكسي.
ركب في المقعد الخلفي. الأمر تم بسهولة. قال الزبون:
ـ المعادي.
أغلق الأبواب وزجاج النوافذ بواسطة الأزرار بجواره وانطلق. لمحه في المرآة ينظر من النافذة ساهماً، ورأي أن يكون بينهما كلام. قال:
ـ حضرتك ساكن في المعادي من زمان؟
ـ ليه؟
ـ أنا هناك من عشر سنين.
ـ فين؟
وصف له حياً شعبياً رآه مرة ونسي اسمه. قال الزبون:
ـ كل ده تغير دلوقتي.
ـ أصل شكلك موش غريب.
ضحك الزبون: يعني شفتني في المعادي؟
بادله الضحك: ليه لأ. أو ركبت معاي قبل كده.
ـ يمكن شفتني في الجرائد. أنا صحفي.
ـ أهلاً وسهلاً. أحسن ناس. أنا ركب معاي مرة الأستاذ مصطفي أمين. عربته تأخرت وكان خارج من سهرة. شافني. وجاي يدخل من باب التاكسي انحشر.
ضحك الزبون: وعملت إيه؟
ـ حاعمل إيه. نزلت ودخلته حتة حتة.
الزبون استغرق في الضحك: ازاي؟
ـ الأول رأسه وكتفه.
وضحك. والزبون انفجر في ضحك مرتفع. قال أبو كف:
ـ زي ما بقول لحضرتك. بركت ورفعت رجل. دخَلتها. والرجل ما شاء الله تقيلة قوي. وبعدها الرجل الثانية.
ـ تعبت كتير.
ـ نفسي انقطع. وصلته أخبار اليوم.
ـ في الليل؟
وسكتا. قال أبو كف بعد لحظة:
ـ العيشة بقت صعبة قوي يا أستاذ.
ـ سيبنا من السيرة دي.
وانتبه إلي الطريق. سأل:
ـ علي فين كده؟
ـ حاخد بنزين من محطة قريبة. أتعامل معاها دايماً.
ـ بنزين إيه؟ إحنا فين؟
ـ حانكون فين؟ علي الطريق.
الخلاء يضيئه القمر. أشجار علي الجانب. حقول ممتدة يتمايل زرعها. الطريق خال. لا سيارات خلفهم ولا أمامهم. قال أبو كف:
ـ ومين في الزمن ده بيقرا جرايد؟
ـ إيه الحكاية؟
ـ كل ده من الكلام الفارغ اللي بتكتبوه.
ـ إيه الحكاية؟
ـ حكاية إيه يا راجل. إنت خليت فيها حكاية.
أوقف السيارة علي جانب الطريق. فتح الباب الخلفي، طرح الزبون علي وجهه فوق المقعد. قيد يديه برباط سحبه من جنبه. قال الزبون:
ـ لو حكاية فلوس؟
دس منديلاً في فمه:
ـ لسه بتتكلم عن الحكاية؟
دحرجه إلي أرض السيارة:
ـ موش عايز صوت.
وانطلق.
علي بعد قليل، بدا كشك شرطة عسكرية وضوء خافت داخله. خفف من سرعته وتخطاه، عند مفرق طرق دخل طريقاً جانبياً ممهداً. سار فيه قليلاً، ثم أوقف السيارة بين شجرتين أمامهما مساحة خالية متربة، علي جانبها سور مهدم داخله خرابة، ولافتة عريضة سوداء كتب في وسطها باللون الأبيض اسم المالك.
ما جري للصحفي قرأناه نحن الحراس دون تفاصيل في الجرائد، وقلنا وقتها إنها حكاية عجيبة. ولم يخطر لأي منا أن يكون أبو كف مشاركاً.
سحب الصحفي من داخل السيارة. كان خفيفاً مثل غلام. أنزله بالراحة علي الأرض مغمغماً:
ـ من غير كسور ولا عاهات. حاضر يا أفندم.
فك قيد يديه وأخرج المنديل من فمه. زحف الصحفي مبتعداً قليلاً. فتح أبو كف السيارة، قعد علي طرف المقعد وساقاه للخارج والصحفي مكوم عند قدميه. أخذ رشفة من زجاجة الكوكاكولا، وسأله:
ـ بتحب أم كلثوم؟
أخذ رشفة أخري وتجشأ في صوت. قال:
ـ باين عليك لئيم. بتحبها وموش عايز تقول.
بعد الرشفة الثالثة نظر إلي الزجاجة ليري ما تبقي. سأله:
ـ بتكتب إيه في الجرايد؟
ـ......
ـ برضه ساكت. مع أنني أفهم والله. طيب اسألني أي سؤال.
أخذ الرشفة الأخيرة. نظر إلي الزجاجة الفارغة. طوحها نحو اللافتة.
ـ إيه رأيك تكتب قصة حياتي؟
سكت. ينظر حوله. أشعل سيجارة وظل ساكتاً. قال:
ـ الوقت بيجري وعايز أعرف بتكتب إيه؟
ـ أكتب في السياسة.
ـ مجلس الشعب والحكومة والحاجات دي؟
ـ آه.
ـ الله يكسفك. دي موضوعات. العياذ بالله. ومين يقراها؟
ـ آهو.
ـ وكله؟
ـ آه.
ـ قلت لي. اخلع هدومك. وطول السكة أفكر إيه اللي انت عملته. مادام فيها كله. اخلع هدومك.
زحف الصحفي للوراء. قال أبو كف:
ـ اخلعها بدل ما أقطعها. البدلة جديدة خسارة.
خلع الصحفي السترة وتوقف. قال أبو كف:
ـ والباقي. من غير صوت.
خلع باقي ملابسه قطعة وراء الأخري، رتبها فوق الحذاء. قال:
ـ بتشتغل لمين؟
ـ ليه؟ موش مالي عينك؟ يا قوة الله.
كان لمح عضو الصحفي وهو يحاول إخفاءه بين فخذيه:
ـ كل ده. سبحانه يعطي من يشاء.
ضحك:
ـ لو أعطاني نصفه ماكانتش مراتي راحت في النوم وهي تحتي.
دس المنديل في فمه، وأعاد قيد يديه. سحب الحزام. تأمل لحظة الجسد الملقي. كان ضئيلاً شاحباً في ضوء القمر، وعندما ثني ساقيه برزت عظامه. هوي بالحزام. تقوس الجسد وانقلب علي وجهه، تدحرج والحزام يلاحقه، يزم ويئن، ثم ضرط.
توقف عن الضرب. الجسد رقد ساكناً وعيناه صاحيتان تنظران إليه. أنفه الدامي وشفتاه، لابد أن الحزام نالهم. نزع المنديل من فمه. انطلقت بصقة إلي وجهه، مسحها بالمنديل الذي كان لا يزال في يده ورمي به، انحني يفك قيد يديه. ماذا جري له؟. لا يدري. العلقة لم تكتمل، نصفه السفلي كله كما هو. أخرج منديلاً آخر مسح به أنف الصحفي وفمه، كان يظنها مجرد لعبة مسلية تخرجه ساعات من خلف الأسوار. حاول أن يتذكر ما طلب منه الرائد أن يقوله بعد ضربه. بقيت كلمات واختفت أخري، وكان ينظر إلي قمة الشجرة ورأي عشاً يرقد فيه طير يصفق خفيفاً بجناحيه منتشياً ربما بضوء القمر. تذكر الكلمات ورددها:
ـ ده عشان تحترم أسيادك بعد كده.
أشار له أن ينهض، وقف مترنحاً. آثار الحزام قاتمة علي جسده الأبيض.
ـ عارف الطريق. أمشي.
نظر الصحفي إلي ملابسه. قال أبو كف:
ـ سيب الهدوم. امشي.
ـ الأوراق في المحفظة. ومفتاح البيت.
ـ آه. فين المحفظة؟
كاد ينسي ما قاله الرائد:
ـ خذ فلوسه.
ـ وأعمل بها إيه؟
ـ خذها وخلاص.
أخذها. ورمي إليه المحفظة.
سار الصحفي متعثراً. وفي الطريق قابل من أعطاه ملاءة أو عباءة لف بها جسده.
انطلق أبو كف إلي الجهة العكسية. لمح بعد قليل مقهي ريفي صغير علي جانب السكة. وبيوت قليلة مبعثرة خلفه. في أيامه القديمة كان شغوفاً بهذه المقاهي، يتوقف عندها حين تكون في طريقه بعد توصيلة. أوقف التاكسي علي جانب المقهي، واختار كما في الماضي مقعداً خارجها، نفس ما كان يراه سابقاً، الترعة وجسر نحيل من الخشب يصل الضفتين، يرتفع صريره كلما مرت بهيمة فوقه، ونسوة يحملن مواعين وهدوم يهبطن الشاطيء، ويري الواحدة صاعدة تتوقف علي حافة الإسفلت، تجمع ذيل جلبابها المبتل وتعصره، وتمضي.
دخن حجرين من المعسل. رائحته التي افتقدها ثلاث سنين، ويكون في فناء السجن ويشمها. يتلفت حوله. لابد أن الهواء حملها من مكان قريب.
شرب الشاي، كان لا يزال عكر المزاج، دخن حجرين آخرين، بحث في جيوبه عن باقي الفكة. نادي صاحب المقهي، جاء يجفف يديه في حِجر الجلباب. وقف منتظراً. الفكة علي ما يبدو تركها في التابلوه، أشار بيده نحو التاكسي، وقام متجهاً إليه. صاحب المقهي ربما لم يفهم معني الإشارة، مالت رأسه قليلاً ليتابعه بنظراته، ورآه يركب التاكسي وينطلق، الرجل مسح الترابيزة بذيل جلبابه، واستدار ليدخل، ورأي التاكسي راجعاً بمؤخرته. نزل أبو كف يهز رأسه أسفاً ويقول أنه نسي. مد يده بما تبقي من الفكة، والرجل تراجع خطوة ورفض أن يأخذها. وأصر أبو كف، والرجل حلف الطلاق:
ـ انت ضيفنا يا أسطي.
أبو كف رمقه لحظة ساكناً. كان يشخشخ بالفكة في يده، ثم استدار عائداً إلي التاكسي.
توقف عند محطة بنزين وتحدث بالتليفون:
ـ كله تمام يا أفندم.
حتي هذه اللحظة كان في طريقه إلي المعتقل. كلمة "المعادي"، التي قالها الصحفي ـ وكان يسوق مستعيداً حوارهما ـ برقت فجأة. هو أيضاً يسكن هناك. لن يتأخر كثيراً. ساعة زمن. يري امرأته ويلمسها.
ـ ولا من شاف ولا من دري.
حارس الرائد يقول أنهم يحسبون الوقت بعد التليفون. لو كان يعرف لأخر اتصاله بالرائد.
الفكرة تروح وتيجي. يتأملها متردداً. ثم أخذت تلح وملأت دماغه. وامرأته تخايله كما اعتاد أن يراها في عنبر السجن قبل النوم، قادمة من الحجرة إلي الصالة تلبس جلباباً علي اللحم، وضوء النافذة وراءها يعري جسدها واستدارته، ترفع ذراعيها تعقد شعرها من الخلف ويلتصق الجلباب بصدرها الممتلئ ويشف عن الحلمتين المنتصبتين. يستعيد المشهد مرة وأخري. يحس وهو في رقدته أن المساجين المجاورين له يرونها معه. يتكئ علي كوعيه، ينظر إليهم واحداً. واحداً. يبادلونه النظرات، يعود إلي رقدته ويسحب البطانية علي وجهه.
يستدير بالسيارة راجعاً، ويأخذ الطريق إلي المعادي.
أوقف السيارة غير بعيد عن البيت. لمح الساندوتش. تمهل قليلاً حتي تناوله، ثم غادر السيارة.
لا أحد يسأل مسجوناً كيف فتح باب شقة. أشياء صغيرة يتعلمونها سريعاً في أيامهم الأولي. ودائماً في التفتيش نعثر في جيوب الكثيرين منهم علي سلك رفيع ثني طرفه. قد لا يستخدمونه شهوراً. غير أنه من الأفضل أن يكون في متناول أيديهم. وأمين المخزن أدري بذلك من غيره، من يوم لآخر يجد قفل المخزن مفتوحاً. وعيب أن يكسروه. هو أيضاً لا يحاول تغييره، فمهما كان نوعه وارتفاع ثمنه سينالون منه. يأخذون القليل الذي يكفيهم. شاي وسكر لبراد ممتلئ. أرز يشبع اثنين أو ثلاثة، يطبخونه علي "التوتو"، في العنبر، متحلقين، منتشين برؤية فقاقيع ماء الأرز تظهر وتختفي، يذكرهم طعمه بما كانوا يأكلونه في الخارج.
دخل أبو كف الشقة. توقف لحظة في الصالة. روائحها القديمة وكان نسيها. كل شيء كما تركه. مقاعد الأنتريه الثلاثة. فوطة اليد التي ترمي بها امرأته علي مسند الكنبة عندما تسرع إلي التليفزيون لرؤية المسلسل. ترابيزة الأنتريه، سطحها الزجاجي المشروخ عالجه بورق لاصق. أزيز الثلاجة. فتح بابها. زبادي. جبن قريش تحبه امرأته، أربع حبات برتقال. حلة. رفع غطاءها. محشي كرنب. ياه. مازال المحشي موجوداً في الدنيا. أصابعه الرفيعة، لا يعملها غيرها. وكيف تتلقاه؟ تصرخ؟ هو لا يريد الصراخ. باب الحجرة موارب. ضوء الوناسة الخافت. كان اقترح عليها أن تغلق الشقة، وتذهب عند أهلها في البلد. في الزيارة التالية أخبرته أنها جاءت بأختها الصغيرة تقيم معها:
ـ علشان أعرف أزورك من وقت للتاني.
ورأي الشوق في عينيها.
ماذا يفعل الآن بأختها؟ يرسلها تشتري شيئاً؟ لا يكفي الوقت. الأفضل أن يأخذ امرأته إلي الحجرة الأخري ويترك البنت نائمة. لو رأته ستحكي عن خروجه ويكثر الكلام.
وجهها النائم. شعرها المبعثر. ومن يكون؟. وقف بمدخل الحجرة ساكناً. من؟ يلبس جلبابه المشمور حتي أعلي فخذيه. شعر ساقيه الكثيف. ذراعه مثنية فوق وجهه. هي بالقميص الداخلي. ترقد علي جنبها، وجهها للرجل. حمالة القميص انزلقت لمنتصف ذراعها، وخرج ثديها مسترخياً، فخذها العاري فوق ساقيه. "الكيلوت" الأسود ملقي بجوار الفراش فوق شبشبها الأخضر القطيفة. وكان من لحظات يضرب رجلاً صغيراً بالحزام. والرجل يتلوي ويئن. وهي؟ كانت من أسبوعين تزوره. ورأي الكحل كثيراً في عينيها. كان واقفاً بجوار الفراش من ناحية الرجل. أراد أن يطفيء الوناسة ونسي. الرجل أنزل ذراعه عن وجهه. فتح عينيه، نظر إليه ثم أغمضهما. استرخي علي ظهره. هي تتململ بعد أن سقطت فخذها عنه. تغمغم وتغير من رقدتها. وجهه غير غريب. وأين رآه؟ كان قاعداً علي حافة الفراش ينظر إلي الوجه. من الجيران. في مسجد؟ سوبر ماركت؟ أطبقت يده علي رقبة الرجل، واليد الأخري فوق فمه. ارتفع جسده ثم سقط، عيناه جاحظتان مرعوبتان، ويداه تلوحان، دفع بهما إلي صدر أبو كف، يستطيع أن يبعد عنهما. رآهما تنهشان صدره، يدان نحيلتان بأصابع طويلة، وأظافر نظيفة. كان هادئاً يضغط بشدة، تراخت اليدان وظلتا علي صدره. سمع الشهقة ورآها تجثو علي ركبتيها وتنزلق خفيفاً بظهرها. كانت ترتعش كأنها قشعريرة. نظر إلي فخذيها العاريتين المضمومتين وثدييها الظاهرين وقد انحسر القميص إلي وسطها. جاءت عيناه في عينيها. تومئ له، هزه رأسها الخفيفة وكأنها تريده، وانفرج فخذاها قليلاً. ربما غفل لحظة عن الرجل، جسده يحاول أن ينقلب علي جنبه. شدد من قبضته. الفم مفتوح علي آخره، ثم سكنت حركته. التفت. لم يرها. مسح في الجلباب ما سال علي يده من لعاب الرجل. كان لا يزال هادئاً، ثم بدأ يغضب. نظر حوله. أين؟. "الكيلوت" في مكانه والشبشب. خرج إلي الصالة. وما يمنعها عن الصراخ؟ باب الشقة مفتوح. خرجت؟ ربما مختبئة علي السلم. صعد ثلاث أو أربع درجات ولمح باب الشقة يغلق. ارتفع صراخها. اندفع يهبط السلم. وانطلق بالتاكسي.
>>>
الحارس ومعه رجل يلبس «مدني» يقعدان علي دكة صغيرة جنب باب المعتقل. أعطي مفتاح التاكسي للحارس الذي مدها إلي الرجل. ورأي الرجل بعد ذلك ينحني ويفك نمرة السيارة من الأمام والخلف، وظهرت نمرة أخري تحتها. وانطلق التاكسي.
دخل المعتقل والحارس وراءه. أعطاه هدوم السجن. كان يغير ملابسه حين قال الحارس إن سيادة الرائد في غفوة علي الكنبة في مكتبه:
ـ يظهر حايبيت هنا. لو طلبك أقول لك
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://poems.mam9.com
 
«الأســـــــــــــوار» ....... فصل من رواية جديدة لمحمد البساطي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
فضاء الإبداع :: القصة والرواية-
انتقل الى: