حياة فنان انتحر طبقيا وجسديا
فانسن فان كوخ Vincent Van Gogh
ترجمة بديعة بنمراح
بتصرف
كان مساء يوم 25 دجنبر 1888 يشهد أوجه في منزل بإحدى أزقة آرل Arles الفرنسية، حيث كانت مومسات يشربن نخب عيد المسيح مع زبنائهن على نغمات كئيبة لأرغن عتيق. بينما كان البرجوازيون ينعمون بموائدهم الفاخرة.
فتح باب المنزل فجأة، ودخل رجل أشعث الشعر ينحني مقوسا ظهره . عيناه تلمعان بشكل غريب، وعلى رأسه قبعة مائلة قليلا ناحية اليمين تغطي بالكاد ضمادة كبيرة الحجم، إنه السيد فانسن Vincent التشكيلي الهولندي وذو المظهرالمثير . كان قد استقر لتوه بآرل Arles.
تقدم نحو راكيل Rachel عشيقته الوفية، وأهداها ظرفا قائلا: "احتفظي بهذا الظرف باهتمام، من أجل ذكراي !" وانسحب بسرعة. بقيت راكيل مشدوهة قبل أن تفتح الظرف، وتسحب منه أذنا بشرية زجت ونظفت بعناية فائقة، فها لها الأمر وفقدت وعيها..
لقد تدحرج المسكين فانسن فان كوخ Vincent Van Gogh هذه المرة في دوامة الجنون وسينعكس هذا في فنه، حيث تتخضب الشمس وحقول القمح بحمرة الدم القاني....
"لا أحد يجادل أن الأرض مستديرة، كتب فان كوخ، ولكن هناك من لا يزال يظن أن الحياة مسطحة، تمتد من الولادة إلى الموت، ومن المؤكد أن الحياة أيضا ذات شكل دائري، ضاربة في الامتداد والقوة، أكثر مما تتصور اليوم" بهذه الكلمة البسيطة يمكن أن نكثف التعبير عن شخص فان كوخ، الإنسان والفنان التشكيلي الذي ظل يقاوم الموت بكل قواه، ليرضخ في يوم ما، مع الأسف، لجاذبية "أرض مسطحة" بعد أن خاض صراعا أشد ضراوة وأكثر مأساوية.
يعود تاريخ عائلة فان كوخ في الأراضي المنخفضة إلى القرن 16 إذ عرفت بمهامها الصعبة التي ترجع إلى مركزها الاجتماعي وانتمائها البرجوازي، فهي في زيلاندا، ولكنها تنتقل بين لندن وبروكسيل. إنها عائلة ثرية متمسكة بالتقاليد البرجوازية البروتستانية بكل ما يحمله ذلك التمسك من معنى. و قد كان الجد باستور دوبريدا Pasteur de Breda قد ترك بنتين تزوجتا في وسط الجنرالات وخمسة أولاد من بينهم أميرال وثلاثة من كبار تجار المنتوجات الفنية، وخامس هؤلاء هو أب الفنان، ولم تكن له منزلة مهمة.
في 30 مارس من سنة 1852 ولد فانسن Vincent بقرية بالقرب من الحدود البلجيكية اسمها كروت زينديرت Groot Zindert وتوفي فانسن هذا بعد ستة أسابيع من ولادته . بعد سنة بالضبط أي في 30 مارس 1853، ولد الفنان وسمي فانسن ليحمل بذلك اسم أخيه الذي مات وكتب عليه أن يرى منذ طفولته بين الفينة والأخرى اسمه محفورا على شاهد قبر.
وبعد ولادة الفنان، بدأ البيت يبتهج بالأطفال وأصواتهم حيث جاءت أنّا Anna ثم تيودور Theddore ثم اليزابيت Elizabeth وولهمين Wilhemine وأخيرا بنيامين Benjamin ومع ذلك كان البيت يسير مضبوطا ولا ينفلت من هذا النظام إلا فانسن، الذي لم يكن يهتم باللعب ولا بتقاليد العائلة ، وكان يروق له أن يقلب الأوراق أو يرسم قطة تتسلق أشجار الحديقة،وكان مظهره يوحي بالحزن والصلابة، وفي المدرسة حيث كان يلتقي بأبناء الفلاحين، تعلم كيف يغذي غضبه وصلابته، وما إن تنتهي الدروس، حتى تنبجس من بين أنامله رسوم لأزهار وحيوانات يقدمها في الغد لرفقائه وكانوا يعبرون له عن انبهارهم وإعجابهم.
كان فانسن يقرأ كثيرا، وسيصبح هذا الفنان، ذو المظهر الرث الذي عاش حياة مأساوية، من بين الرجال الأكثر ثقافة في عصره بين الثانية عشرة والسادسة عشرة من عمره ولج مدرسة داخلية بمدينة زيفن بورغن zevenbergon حيث ظهرت صراحته الفائقة ومواهبه المحيرة وشخصيته الحادة الحزينة في آن معا.
ملامحه لا توحي بأنه شاب يافع، حاجباه يتقوسان أكثر فأكثر، جبهته ذات تجاعيد، ونظرته دائما حادة، وحين تعلو شفتيه ابتسامة ينبعث الأمل من جديد لدى عائلته فتسمع أحدهم يقول مثلا: "بشيء من المساعدة يمكن لفانسن أن يصبح فان كوخ الذي يجب أن يكون في الوقت ذاته، رجل الخير والمال..."
وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره، وجد له عمه فانسن المعروف بـ :سون cent عملا في احد المحلات التجارية لإحدى الشركات وتدعى شركة غوبيل S.Goupil فاشتغل هناك في تلفيف وفتح الأكياس والعلب وتسجيل السلع، وفي ساعات فراغه، كان يزور متاحف المدينة، وعندما أنهى مدة التدريب بالمحل المذكور، أرسل إلى لندن ليشتغل في محل مماثل.
في العشرين من عمره، أصبح عريض المنكبين وذا هوايات كثيرة، وكان يرسم بين الفينة والأخرى ثم يدمدم غير راض: "هذا لا يعني شيئا." ويقرأ بالخصوص ديكنز .Dikens بشغف وهذه المرة ضحكت له الحياة، إذ كانت تعيش بالقرب منه فتاة تشبه إحدى بطلات كاتبه المفضل ديكنز، وهي ابنة السيدة التي كان يستأجر منها سكنه، إنها فتاة جميلة ولطيفة اسمها ارسيلا Ursula وقد سماها ملاك الحضانة، إذ كانت تشتغل في محل للحضانة.. ووقع في شراك حبها، وبقي فترة يحلم بها ثم قرر أخيرا أن يبوح لها بحبه، لكنها فاجأته بضحكة استهزاء وقالت له: إنها مخطوبة.
بدأ حلمه يتبدد. وحاول جهد إمكانه أن يمنع هذا الفشل، فألح ..وهدد.. لكنه وجد نفسه وحيدا، وفي مسامعه يتردد صدى تلك الضحكة المجلجلة.
أرجعه عمه إلى المحل الأول بفرنسا ولم يعد يحس بباريس، ولا بالحي الذي كان يقيم فيه، مونتمارتر Montmartre حيث كان يمر كشبح يحترق.. وكان يفاقم عذابه، مستوى تلك اللوحات الهابط التي أخذ يبيعها. ثم أخذ الزبناء يتذمرون من هذا الهولندي الخشن الذي يلف مشترياتهم بطريقة لا تروقهم، فترك عمله بدون إخبار متجها نحو لندن، وبعدها جال في الأراضي المنخفضة فاعتبر مفصولا عن عمله، وفي 16 أبريل 1876 وكان في الثانية والعشرين من عمره، قبل أن يشتغل مدرسا في رامسغايت Ramsgate بإنجلترا، وكان المشهد أقرب إلى رواية من روايات ديكنز المتعلمون فقراء المؤسسة يرثى لها والمدير أقرب إلى تمثال خشن ، وقد حطمته الفاقة . وذات يوم من شهر يونيو، كلف فانسن بجمع المستحقات المتأخرة للمدرسة، ولم يستطع أن يفعل ذلك لعدم جرأته فأعفي من عمله.
وبعد ذلك، أخذ يداوم على الطقوس الدينية مع جماعة من البروتستانت، وبدأ يتعلم الأغاني الدينية ويزور المعابد والكنائس ، ويمارس الشعائر في خشوع ورهبة، وكان واحد من طقوسه يبدأ بالقول: لست إلا غريبا على الأرض". وكانت جدران غرفته مغطاة برسوم وتماثيل دينية و قد أهمل حاجته إلى الغذاء وراح يلقي بالمال القليل الذي عنده إلى الفقراء، فوقع مريضا.. وبعد أن قضى عيد السيد المسيح في هولندا، قرر مبكرا أن يصبح قسا بينما قررت العائلة إرساله إلى أمستردام ليدخل كلية علم الأديان ... وقد تكفل به عمه جوهانس Johannes فانكب على دراسة الإغريقية واللاتينية ولكنه وجد نفسه مشدودا إلى اللغات الحية.
فقرأ شكسبير في الأصل، وبخطه الذي يثير الأعصاب، لاستعصائه على القراءة.
كان فانسن لا يمل من كتابة رسائل طويلة لأبويه أو لأخيه تيودور الذي أصبح يعمل في محل لشركة غوبيل Goupil ببروكسيل، وكان يبوح لهم بهمومه.
وهنا أيضا تاه فانسن مرة أخرى، فبعد خمسة عشر شهرا بأمستردام، فر من جديد وأعلن عزمه أن يصبح قسا، فدخل مدرسة تطبيقية تبشيرية في بروكسيلن ، وكان يعاني من ضعف قدرته على التواصل مع الآخرين ، حيث كان عنيدا تجاه ملاحظات معلميه. و أخذ يرسم بالفحم ورغم رسوبه مرة في الامتحان، قرر أن يتفوق على مستوى الإقليم لكي يتكلم باسم عيسى ويأمر بعلاج المرضى وتعليم الدين للأطفال.
هاله مشهد السواد والبؤس، سماء رمادية، جدران وسخة، ماء مكدر.... الفحم غطى كل شيء حتى أصبح التنفس صعبا للغاية، وبعد فترة أخذ عمال المنجم ينصتون إلى فانسن، يحدثهم عن الله، والأطفال. دأبوا على الاحتفاظ بعناية باللوحات التي طفق يرسمها ويهديها لهم وقرر مجلس المؤسسة أن يمنح فانسن فرصته وعينه تحت الاختيار لمدة ستة أشهر.
وعندما اجتاح المنطقة مرض التيفوس Typhus،تطوع لمساعدة المرضى ليل نهار، فأصبح شاحب الوجه، نحيفا... ولما زال الوباء، وقد حصد الكثير من الأرواح، غادر غرفته، المتواضعة وأنشأ كوخا وسط حديقة وأخذ ينام فيه على كومة من التبن، إلا أن بساطته وإهماله لنفسه، واهتمامه الزائد بالناس وأحزانهم .. قد ألبت عليه رؤساءه فعاد إلى غرفته لكنه سرعان ما غادرها، إذ حاول إسداء النصح للمسؤولين على إحدى الشركات المنجمية لعدم احترامهم شروط السلامة في المناجم، وكان جوابهم: "سيد فانسن، سنرسلك إلى مستشفى المجانين إذا لم تتركنا وشأننا !!"
في شتاء 1879 عاد فانسن فان كوخ إلى بيت العائلة، لكنه سرعان ما أحس بالضيق، فهام في طرقات هولندا حيث كانت البطاطس والخبز غذاءه ، وفي هذا الشتاء القارس بالذات، رضخ فانسن لنصائح أخيه تيودور الذي كان معجبا برسوماته، وقرر أن يتفرغ للتشكيل، فاستقر مرة أخرى ببروكسيل ، وكان يلتقي ببعض الرسامين مثل : فان رابار Van Rappard، فنان أرستقراطي أنيق، وقال عن فان كوخ "إنه جميل ومخيف" ! وكان يأخذ بنصائح هذا البائس الذي كان يعيش على الخبز الجاف والماء، وكان يعلمه قوانين الأبعاد les perspectives أثناء الحصص التي تكون ساخنة في كثير من الأحيان، وكان يلذ لفانسن أن يتناول في مواضيعه الصيادين والعمال، ويرتدي ملابس سوداء وهو يسعى بكل ما أوتي ليرد للحياة في عالمه الفني بريقها. لم يكن يود أن يصبح شخصا خارقا للعادة، بل مجرد إنسان عادي يعرف معنى الحياة والموت والحب