بين الراوى والحكاء
قراءة نقدية فى رواية / أحمد والى
العربى عبدالوهاب
• الراوى / الحكاء وتنوع طرائق السرد :
ثمة مزج فنى جوهرى يشكل البنية السردية للرواية ألا وهو مزج العامية بالفصحى فى بناء يتغلغل كاشفا عن الوعى ، ذلك المزج يخلخل التصور السلفى بأنه يمكن أن يكون السرد بالعربية الفصحى والحوار بالعامية ( رغم المعارضات ) بينما هنا تخترق العامية المساحة السردية ليتم الحفاظ على حميمية الموقف أو الصوت الذى يجسده الراوى ويتخفى وراءه ، فلكل شخصية وعيها الخاص بها ولغتها وصوتها المتميز ، ولأن الرواية تشكل بنيتها المركزية ومتابعتها وربما بالمواقف الخاصة التى تكشف ثرائها وعمقها الدلالى ، لذا وجب على الراوى أن يهتم بلغتها وعاميتها ليتمكن من اختراق وعيها الشعبى والإمساك به وطرحه داخل البنية الجمالية ( خير يا سميح بيه
الريس يا سيد قالب الدنيا عليك ، عايزك فى موضوع شخصى ، أنا مش داخل معاك لأنه زعلان منى ( بلدياتك ) وصحبك وانت وكيل جهاز المخابرات ومش قادر تجيبه لا يا سميح لا .. دا مش ينفع .. الله يخرب بيتك يا سيد ) ظهر الغلاف .
وإذا كان المقطع كله بالعامية فى حكاية من طرف واحد لسيد العربى أحد المعاملية الفشارين والذى لا يقل عنه الأسطى عبد الودود المعاملى فى الفشر ، فإن العامية هنا هى الأقدر على التغلغل ومناقشة الوعى ؛ بدلا من أن يحشر الراوى أنفه فى الموقف وهو غائب عنه بلا أى مبرر فنى ـ فقط ليجعل السرد فصيحا ـ والراوى لم يلو عنق ووعى الشخصية لصالح اللغة خائفا من الصراع الأزلى بين الفصحى والعامية حاسما الموقف لصالح منطوق الشخصية ووعيها ومستواها الصوتى .
وإذا كان الكاتب قد لجأ إلى حيلة فنية فى الفصل 14 حين أوضح كيف يكافح الكاتب من أجل امتلاك شخوصه ليقوم بالحكى عنهم يقول ( كنت قد انتويت أن أكتب عن الأسطى فإذا بالحارة وشارع البحر يزاحمونه فى الوجود بشخصياتهم وأحداثهم .. وكان لدى نية أشبه باليقين أنى سأكتب عن متولى الثانى فإذا بالشبراوى كباب ومحسن أبو سلام يطلان من بين السطور وكأنهما يخرجان لسانهما لى وهأنذا أقاوم لأكتب ما تيسر عن متولى ) ص94
والمقطع يؤسس لدلالة فنية لا بد أن نفيد منها فى تحليل النص وتوجيهه هو أن الشخص بداية تزاحم بعضها البعض لشدة الروابط والعلاقات والمواقف والأحداث المشتركة بينهم .
وتلك الشخوص تمتلك وعيها ووجودها المتفرد والكاتب فقط يقوم بدور المنظم لتلك الأحداث على المستوى السردى ، لذلك تتواتر الحكايات حتى يظن القارئ أنه أمام حكايات وليس رواية ، فتتبدى الخيوط الفنية دالة ومتواشجة يربطها مع بعضها الأسطى عبد الودود وهو الخيط الدلالى الذى يجمع هذا النسيج الزاخر بمادة الحكى طارحا وعيه بوضوح سافر وكأن ملامح ورؤية الكاتب قد تلبست الأسطى فنراه يقول عن العهد الناصرى وما تلاه ( أما يوم وفاة عبد الناصر فكان يوم الحزن الأكبر .. كان يصرخ : ياريت مرتى وعيالى ماتوا وانا كما ، وانت فضلت يا حبيبى ) ص 154 ( أما يوم العبور فحدث ولا حرج ………. أولادنا عبروا القنال ودخلوا سينا . نادرين عليا لأتف على …. مائير الشايب خمسميت تفة واخرق العين التانية لديان ) ص155
والكاتب لا يجنح بالشخصية بغية الطرح المباشر بقدر ما يحاول أن يتحوط تلك الشخصيات بسياج من الوعى التاريخى والسياسى والذى يتبدى من خلال حكايات وحضور الشخصيات التى تقوم أحيانا بالتلميح وأخرى بالتصريح ، ولأن الرواية فى النهاية بفضائها وشخوصها هى إبداع خاص لكاتب واحد نستطيع أن نقول بأن الراوى تراجع بالمفهوم السلفى لصالح الراوى الحكاء فبرز لنا حكاء متميزا لا يقل عن يوسف إدريس ولأسلوبه فى الحكى مذاق متميز كأنه آخر الحكائين الجالسين على المصطبة الحاملين لثقافة ووعى المكان .
• تقنية تسجيل الهوامش :
اعتمد الكاتب فى روايته على تقنية الهامش فى نهاية الفصول وذلك أولا لكى لا يقطع الخط السردى والانسياب الفنى للحكاية أو الموقف أو الحدث المسرود .
ثانيا لما يحمله هذا الهامش من رؤية هامشية تضيف إلى المتن بعدا دلاليا جديدا لا يقل أهمية عما يحمله المتن السردى ؛ ومرجعية ذلك أن الهامش يمثل اختراقات متعددة للتابو ، فثمة حواش كثيرة تحيط بكل شخصية ، يقوم الهامش بالكشف عنها وبتعريتها مما يتيح لها فرصة الحضور المتوهج ، فمتولى الأول ( والد الأسطى ) يكتسب مثلا فتوته من خلال الهوامش الملحقة عنه التى تعكس إمكانياته الجسمانية الكبيرة ، إلى جانب أن كل ما يتردد خلال الهوامش يمثل اختراقا للمألوف السردى العادى ويمنحه نكهة حية تؤدى إلى تفشى روح الفكاهة مثل الزوجة التى يوصيها زوجها بأن تحافظ ( عليه ) بأسلوب كنائى ، فيجئ الكاتب ليفضح ذلك عبر الهامش فهل كان الغرض من الهامش هو تعرية الشخوص ؟ .
أظن أن الهوامش تمثل بمفردها رواية أخرى نسبة للإضافات الكثيرة التى تضئ بها الرواية ومرجعية عزلها عن المتن السردى يعود إلى أن الكاتب لم يرغب أن يثقل من الحكايات وحتى لا تنحرف منه إلى متاهات متعددة تضعف البناء الفنى إذا أضيفت إلى السرد .
أما السؤال الذى يلح لماذا لجأ الكاتب إلى تقنية الهوامش ؟ أو بشكل آخر ماذا أضافت .؟
أقول أنه بالإضافة لكل ما سبق صارت الهوامش فى تلك الرواية ( تحديدا ) ضرورية فبدونها تصبح الحكاية رأس بلا ذيل ويظل المتن السردى ناقصا .. هذا النقصان ليس دلاليا بقدر ما هو نقصان فى إعطاء ( الطبخة الفنية ملحها المناسب ) وبدونها يفقد النص الكثير .
يقول فى الهامش رقم 8 ( الباركيه ترف لا تعرفه الحكومات لتلاميذ المدارس أو المرضى وإنما القصور التى أممتها الثورة حولتها إلى مدارس ومستشفيات ومكتبات عامة ) ص 28
فى حكاية عبده ابن رمزى الحصرى ينحرف السرد إلى الحديث عن مهنة عمال النظافة وأن الناس كانت تخجل من تلك الوظيفة لذلك رفضت عزيزة عاملة النظافة بالمدرسة أن ترفع براز التلميذ ويتولد الهامش ليضيف بعدا دلاليا ينمزج بين زمن السرد فى بداية عهد الثورة والزمن الحاضر ( بقايا أناطة واستعلاء من العصر التركى أيضا أما اليوم وبعد الانفتاح والعولمة فقد أصبح الحصول على وظيفة من باب المعجزات ففى المسابقة الأخيرة لاختيار 20 عاملا ( سعاة وعمال نظافة لمجلس المدينة ) تقدم ألفان من حملة البكالوريوس ولقد أجبر ملاحظ العمال العجوز والذى يفك الخط بالعافية ويرسم على جانبى عينيه وشم العصافير . أحد العمال الجدد على حمل جثة كلب ) ص29
ولأن الحكاية لم تنته إلا عندما جأر العامل الذى يحمل درجة الماجيستير وهى شهادة أعلى من رئيس مجلس المدينة وطلب منه أن ينصره على الملاحظ ، فلم يجد سوى كل صلف و جبروت مما دفعه ليبصق بوجه رئيس المدينة ويترك الوظيفة .
هذه حكاية أخرى تعمل بشكل مفارق لحكاية العاملة والبراز . إلا أن إلحاق تلك الحكاية الهامشية بالمتن السردى ، خلق من خلالها وعبر المفارقة المفجعة مدى ما وصلنا إليه فى الحاضر من تساقط وبطالة وارتداد معيشى عن العهد الناصرى . هذا كله يحسب لوعى الكاتب وقدرته على عملية مزج الأزمنة وعلى أن يتحول المتن إلى هامش والهامش إلى متن ، فالهامش هو القطاع المسكوت عنه والمحذوف فى هامش يمكن إغفاله أو تجاوزه من قبل القارئ وقد يهتم به . تلك المراوحة تضيف آلية فنية تثرى النص وتزيد من كشافات الإضاءة على شخوص هامشية فى تلك البيئة المكان / ناس ههيا وحكايات شارع البحر .
• لذلك أقول بأن الكاتب لم تتوقف شخوص روايته أمام العادى بقدر ما تشى به فحوى حكاياتهم عن عمق ووعى دلاليين شديدى الخصوبة فالشخصية تستنهض النادر والمسكوت عنه وتكشف عنه وتدخل به إلى حيز الحرية التى يمنحها لها الكاتب حين يطلق سراحها بعيدا عن الإطار النمطى لبناء الشخصيات وتكتسب بحضورها حيوية الحياة فشخوص الرواية ليست أنماطا جاءت لتمثل دورا وتشكل أبعادا أيديولوجية للكاتب وإنما لتقدم صرخة عفية مناوئة للكتابات السالفة . وتنطلق من بين السطور شخوص حية متفردة وليست أنماطا برغم أنها تحمل مواصفات أصيلة للشخصية المصرية التى لها طعم ومذاق عندما تتحدث وتعيش .. فإذا كانت الشخصيات فى رواية شارع البحر هى الأساس فى البناء المعمارى فهى لم تتوقف أمام المسميات أو المرجعيات النظرية وإنما استخلصت عصارة الحياة من حيز المفروض عليها وهم كشخوص مقموعة دوما تمكنت أن تنال حريتها وتمزق حيز أسلوب المتأدب بل انطلقت على سجيتها فى السرد والهوامش خالقة أبعادها الدلالية تاركة لوعيها أن يعمل بحرية وبفنية دالة .
هى إذن رواية تشكلت عبر آليات وبناءات فنية استمدت مشروعية وجودها من خلال إطار الحكاية المرتبط سلفا بالتراث والمساهم بإنجاز عمل روائى يعكس إمكانيات الحكاء الفائقة والكاتب أحمد والى .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش :
(1) حكايات شارع البحر ـ رواية ـ الكاتب أحمد والى ـ الناشر دار ميريت 2005
(2) الأدب والجنون ـ د/ شاكر عبد الحميد ـ كتابات نقدية (19) هيئة قصور الثقافة ـ سبتمبر 1993
(3) آليات السرد فى الرواية العربية المعاصرة ـ د/ مراد عبد الرحمن مبروك ـ كتابات نقدية (100) هيئة قصور الثقافة ـ مارس 2000
(4) تيار الوعى فى الرواية المصرية ـ د/ محمود الحسينى ـ كتابات نقدية (59) هيئة قصور الثقافة ـ 1997
(5) شفرات النص ـ د/ صلاح فضل ـ كتابات نقدية (85) هيئة قصور الثقافة 1999