بدأت حقبة جديدة كل الجدّة في ميدان الفن بظهور الفنان جوتو الذي لم يكن ينتقص من شأنه الرفيع ما يُشاع من أنه كان مديناً في أسلوبه التصويري إلى الفنانين البيزنطيين، وفي أهدافه إلى محاكاته أعمال كبار مثّالي كاتدرائيات الشمال الأوربي. وتعدّ الصور الجصّية الجدارية "الفريسكو" أشهر إنجازات جوتو، وقد سُمّيت "فريسكو" لأنها تُرسم فوق الحائط بينما لا يزال الجصّ أو الملاط طريّاً طازجاً. ولقد كان المصورون أشد بطئاً من المثّالين الإيطاليين في اللحاق بالروح الجديدة للفنانين القوطيين والتجاوب معها، فلا يغيب عن البال أن مهمّة المثّال الذي يهدف إلى تصوير الطبيعة أيسر بكثير من مهمة المصوّر صاحب الهدف نفسه، فالمثّال في غير حاجة إلى الإيحاء العميق عن طريق التضاؤل النسبي(32) Foreshortening التضاؤل النسبي هو إيحاء بالعمق الفراغي وبالبُعد الثالث في سطح اللوحة نتيجة ضمور أبعاد الأشياء وأحجامها شيئاً فشيئاً كلما أَمعنّا عُمقا، وهو خدعة بصري تُضفي لوناً من ألوان الإيهام بامتداد ذلك العمق. (م.م.م.ث). أو التجسيم(33) Modelling التجسيم هو الإيحاء بكثافة الأجسام وشغلها لجزء من الفراغ الثلاثي الأبعاد فوق مسطّح ذي بُعدين (م.م.م.ث). باستخدام الضوء والظل، إذ ينتصب تمثاله بالفعل في فراغ حقيقي وضوء حقيقي. وكانت بعض المدن الإيطالية كالبندقية على سبيل المثال ما تزال على اتصال وثيق بالإمبراطورية البيزنطية، كما ظل الحرفيون الإيطاليون يتطلعون إلى القسطنطينية مصدراً للإشعاع يستلهمونه وبه يهتدون، فحتى القرن الثالث عشر كانت الكنائس الإيطالية ما تزال مزيّنة بلوحات الفسيفساء الرصينة على غرار النمط المتأغرق. وقد يتبادر إلى الذهن خطأ أن هذا الولاء للطراز اليوناني الشرقي المحافظ قد وقف حجر عثرة في سبيل التغيير والتطور الذي ما كاد يطل في خاتمة القرن الثالث عشر حتى لعب الفن البيزنطي نفسه دوراً جعل الفن الإيطالي لا يلحق فحسب بمنجزات كاتدرائيات الشمال الأوربي بل أن يضرم ثورة كبرى في فن التصوير بأسره، مُتيحاً للإيطاليين فرصة عبور الحاجز الذي يفصل النحت عن التصوير. وعلى الرغم مما يتّسم به الفن البيزنطي من جمود فلا ننسى أنه هو الذي صان مكتشفات المصوّرين الإغريق، وكان لا معدى عن ظهور عبقرية تخرج بالفن البيزنطي عن جموده وتنطلق به إلى عالم جديد، وكان أن ظهرت هذه العبقرية في شخص المصوّر الفلورنسي جوتو بوندوني Giotto الذي طبقت شهرته الآفاق وتباهى به أهل فلورنسا وأشادوا بذكره ووسّعوا رقعة ذيوع صيته وراحوا يؤلفون القصص والحكايات عن عبقريته ومهارته وذكائه. وكان هذا في حد ذاته أمراً جديداً غير مألوف، فلم يكن الناس خلال العصور الوسطى يكترثون بحفظ أسماء فنانيهم وكانوا يذكرونهم كما يذكر أحدنا خيّاطه أو صانع أثاثه، وكذا الفنانون أنفسهم لم يعنوا حتى بتوقيع أسمائهم فوق أعمالهم. وإذا كنا لا نعي أسماء العباقرة الذين أنجزوا منحوتات كاتدرائيات شارتر ونورمبرج وغيرهما فهم دون شك قد ظفروا أثناء حياتهم بما يستحقون من تقدير هم به جديرون، لكنهم رغبوا عن هذا التقدير الذي تبرعوا به من جانبهم للكاتدرائية التي عملوا بها طمعاً في مثوبة الله. ومنذ ظهور جوتو بدأ عهد جديد في تاريخ الفن في إيطاليا أولاً ثم في غيرها من بقاع أوربا، إذ أصبح تاريخ الفن هو تاريخ عظام الفنانين.
وقيل إن جوتو قد نشأ راعياً فقيراً اعتاد الرسم والنقش فوق ما يصادفه من الصخور والأحجار المستوية الأسطح المتناثرة بين الحقول. ومهما كانت طبيعة نشأته فقد لقن منذ البداية كيف يتأمل الطبيعة عن قرب قبل أن يرسم، كما درس نشاط الإنسان والطير والحيوان وكيف تنمو الأشجار وتبدو الجبال، ثم شرع فيما لم يجل بخاطر أي فنان قوطي من الشمال، إذ حذف كل تفصيل يكون من ورائه تعقيد مشهده، وجعل تصميماته أقرب إلى البساطة والطبيعة مع حرصه على التنويع.
وكان جوتو إلى جوار طبيعته الفنية الرهيفة الحس رجلاً واقعياً. فحرص على جمع ثروة ضخمة وأدار أملاكه بحذق ودراية. وتكمن المفارقة في أنه قد حاز هذه الشهرة وظفر بهذه الثروة وهو في خدمة الفرنسيسكان يصور فضائل الفقر والزهد حسبما تجلّت في حياة القديس فرنسيس. والثابت أنه كان رجلاً شريفاً مستقيماً ولم يكن مرابياً جشعاً كما حاول بعض كتّاب السير أن يصوروه، فقد كان يمتلك الأراضي والعقارات ويقرض المال بفائدة شأنه شأن أي ثري فلورنسي وقتذاك. وكان لورنزو دي مديتشي العظيم سبّاقاً إلى وضع صورة لجوتو في كاتدرائية فلورنسا تقديراً لعظمة هذا الفنان الخالد، كما ذكره صديقه دانتي في النشيد الحادي عشر من "المطهر" في الكوميديا الإلهية بقوله: "لقد اعتقد تشيمابويه أنه في فن الرسم راسخ القدم، ولكن الصيحة الآن لجوتو، حتى لقد أظلمت شهرة الأول(34) الكوميديا الإلهية لدانتي. ترجمة حسن عثمان 11: 94 صفحة 169. دار المعارف ".
ومنذ القدم كانت العمارة تعبيراً عن الإنسان، فلقد انطوت معابد الإغريق والرومان وكاتدرائيات العصور الوسطى على معتقدات الإنسان عن نفسه وعن آلهته، وجاء النحت فرعاً متمماً للعمارة بينما أدى التصوير دور العنصر الزخرفي حتى ظهر جوتو ليقلب ذلك المفهوم رأساً على عقب لا بقصد التغيير وإنما بصفته مصوّراً مجدّداً وأداة لهذا التغيير، فنال التصوير على يديه مكانة لم يظفر بها من قبل، وظل الحال كذلك على الرغم من الابتكارات المعمارية الفذّة التي قدّمها المعماري برونليسكي وأضرابه ومنجزات النحت الرائعة التي قدّمها أمثال دوناتللو حتى ظهر ميكلانجلو وانتهى إلى تصوير سقف مصلى سيستينا في عام 1512. وتضم الفترة الواقعة بين تصوير لوحات جوتو الجدارية وبين تصوير سقف سيستينا فنانين عظماء آخرين من أمثال مازاتشيو في فلورنسا وبييرودللا فرنشسكا في أرتزو ورافائيل في الفاتيكان، بينما قدم شمال أوربا بمزاجه الذي يباين غيره من الأمزجة روائع خالدة مثل صورة مذبح جِنت لفان إيك وصور مذبح أيزنهايم لجرو نيفالد إلى غير ذلك مما سأوسعه بحثاً في فصل تال.