فإنسان اليوم أو أي عصر (ما عدا آدم عليه السلام وزوجه) هو نتيجة تلاقح عناصر حية تورث من الأجداد إلى الآباء إلى الأحفاد إلى يوم الدين.
هذه السلالة تجد أصلها عند أبونا آدم عليه السلام الذي لم يورث أي شيء "حي" من قبل بل جاء من أصل جامد ميت لا حياة فيه (التراب). لدى وجب التفريق والتمييز بين "سلالة من طين" لا حياة فيها إلى حين اكتمال الخلق و"سلالة من ماء مهين" فيها نسل وتلاقح لعناصر حية مورثة.
فأسلوب القرآن يختصر فتدوب فيه الأزمنة والأمكنة فتجده تارة يركز على المرحلة الترابية والسلالة الطينية خصوصا عند ذكر أدم وأصل الخلق في غياهب الزمن وتارة يشير بعجالة لهذا الأصل الترابي ويفصل المرحلة التناسلية (سلالة من ماء مهين) لأنها مجردة وملموسة للعيان :
- ﴿ هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا﴾.
- ( اللّه الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا و شيبة يخلق مـا يشـاء وهو العليم القدير )
- ﴿ ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم﴾.
- ﴿ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث﴾.
وإذا كان الحق سبحانه تحدث عن السلالة الطينية وإعجازها بغيبية فإنه عز وجل عاد فاستحضرها بحالة هجينة بين السلالتين وهي معجزة ولادة عيسى عليه السلام فكانت هذه الحالة طفرة في سلالة التناسل بأن خلق المسيح عليه السلام مولودا من كائن "حي" وحيد.
لطالما كانت مسألة الخلق تثير حفيظة المشركين لأنها مفتاح لمسألتي البعث والحساب في اليوم الآخر فالذي يؤمن بها ويؤمن بإعجاز مراحلها ابتداء من المرحلة الترابية يمكن أن يؤمن بالبعث من أصل ترابي كذلك :
- (قالوا ائذا متنا وكنا ترابا وعظاما ا انا لمبعوثون اوآباونا الاولون )
- (ایعدکم انکم اذا متم وکنتم ترابا وعظاما انکم مخرجون هیهات هیهات لما توعدون ان هی الا حیاتنا الدنیا نموت ونحیا ( سلالة من ماء مهين) وما نحن بمبعوثین)
- ( بل قالوا مثل ما قال الاولون قالوا ائذا متنا وکنا ترابا وعظاما ائنا لمبعوثون لقد وعدنا نحن وآباونا هذا من قبل ان هذا الا اساطیر الاولین).
لهذا نرى النص القرآني يطوف بنا في رحلة طويلة للخلق (سلالة من طين + سلالة من ماء مهين) ليسهل علينا هذا الاستنتاج بإ مكانية البعث والإيمان به :
- ﴿ يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا﴾.
- ﴿ أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى﴾.
- (وکانوا یقولون ائذا متنا وکنا ترابا وعظاما ائنا لمبعوثون او آباونا الاولون قل ان الاولین والآخرین لمجموعون (سلالة من طين + سلالة من ماء مهين) الی میقات یوم معلوم)
- (ائذا متنا وکنا ترابا وعظاما ائنا لمبعوثون اوآباونا الاولون قل نعم وانتم داخرون فانما هی زجرة واحدة فاذا هم ینظرون وقالوا یا ویلنا هذا یوم الدین هذا یوم الفصل الذی کنتم به تکذبون)
- ﴿وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا ًبإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني﴾
- ﴿إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله ﴾
وفي نظري فهذا هو سبب عدم الالحاح على ذكر آدم في قصة الخلق (سلالة من طين) لأنه خلق تقاسمناه جميعا في الأزل وسنتقاسمه في البعث ﴿ ولقد حلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ﴾.
أعود فأستحضر قول الحق سبحانه :
﴿ الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه﴾.
وأنا هنا لا أريد الخوض من جديد في المعاني التي يمكن أن تتحملها كلمة سلالة، بل نفرض كما افترضتم أنها تطلق على بشر الأطوار القديمة الذی ولد و تفانى قبل آدم ولكن هذا الافتراض ما يلبث أن يصطدم بصدر نفس الآية التي تنفي النقوص وعدم الإتقان عن كل خلق الله تعالى ﴿ الذي أحسن كل شيء خلقه﴾.
إذن ليس هناك مخلوق بشري ناقص التسوية مستقل بذاته قبل آدم بل هو مشروع واحد للخلق.
III- إشارات قرآنية في مشهد الخلق :
1- ﴿ إن الله اصطفى آدم﴾:
إن ظاهرة الاصطفاء لا توحي بالضرورة إلى اصطفاء آدم من بين بني جنسه أو اصطفائه من بين حيوانات ودواب بل هو اصطفاء من بين كائنات ومخلوقات قد تعادله أو تفوقه في الملكات وفي درجات الطاعة والعبودية.
ومن ذلك :
تساؤل الملائكة استنكارا : ﴿ ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك﴾.
تفاخر ابليس : ﴿ قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين﴾.
قوله عز وجل : ﴿ ولقد كرمنا بني أدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا﴾.
فأفضلية أدم وذريته ليست مطلقة على كل الخلق بل "على كثير" وهي أفضلية على خلق لديه ﺻفة العقل "ممن خلقنا" وليست أفضلية فقط على الجماد (الجبال والارض...) وعلى الحيوانات ذوات الحركة.
﴿ فاستفتهم اهم اشد خلقا ام من خلقنا انا خلقناهم من طین لازب﴾.
إذن فاستعمال كلمة الاصطفاء (أو التكريم) له ما يبرره بوجود مخلوقات أكثر ترشحا لينلها. غير أني أميل إلى كون الاصطفاء الوارد في الآية اصطفاء للنبوة وليس اصطفاء للخلافة بدليل الآيتان التاليتان :
﴿ وعصى آدم ربه فغوى، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى﴾.
﴿ إن الله اصطفى أدم ونوحا وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين﴾.
فالاصطفاء والاجتباء كان للنبوة واقتصر على خلق قليل من ذريته من المرسلين والنبيئيين.
2- ﴿ من يفسد فيها ويسفك الدماء﴾ :
أولا يجب أن نتذكر أننا نخوض في أمور غيبية لا نملك لملامستها إلا ما يسيره الله لنا من علم، فالمشهد غير واضح والصورة غير مكتملة وسيناريو الحوار مقتضب لحكمة يعلمها الله ولو بالنظر لكافة الآيات التي تصف بأسلوب ظني قصة خلق آدم عليه السلام﴿ ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء﴾.
فالملائكة يمكن أن تخبر بهذا القول "من يفسد فيها ويسفك الدماء" من خلال :
معرفتها بفساد الجن في الارض : ﴿ والجان خلقناه من قبل﴾، ﴿ إلا إبليس كان من الجن﴾ وسفك الدم ليست بالضرورة دلالة على وجود بشري بل هي مجردة كناية عن القتل والفناء.
معرفتها بالكائنات التي سكنت الارض قبل أدم.
علم سبق أن علمه الحق سبحانه لها بهذا الخصوص : ﴿ سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم﴾.
وهنا يجب أن نثير مسألة مهمة تخص مدى تفصيلية الحوار في الخطاب القرآني وخصوصا في هذا المشهد وما زج فيه من مصطلحات مستترة "أسماء هؤلاء" "إن كنتم صادقين "ما كنتم تكتمون" "يسفك الدماء"، فإذا تساءلنا عن معرفة الملائكة ربما للماضي الدموي أو المستقبل الدموي لأحد المخلوقات حق لنا التساؤل بنفس الكيفية عن ما أخبر به إبليس في حواره مع الله عن وجل في نفس المشهد :
﴿ قال فأخرج منها فإنك رجيم، وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين، قال ربي فأنظرني إلى يوم يبعثون، قال فإنك من المنظرين إلى يوم وقت المعلوم﴾. ولنتوقف عند كلمة "يبعثون" التي توحي بمعنيان مهمان :
معنى البعث الذي يمكن أن يستنبط مما سبق من حوار "إلى يوم الدين".
ومعنى تكاثر الخلق من ذرية أدم لأن إبليس صاغ الفعل بصيغة الجمع مما يستوجب وجود بشري آخر مكلف من غير آدم (عليه السلام) على الأقل، وربما كانت حواء لتحقيق إمكانية التكاثر أو الاصطفاء وفي آية أخرى ﴿ قال أرءيتك هذا الذي كرمت لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا﴾.
إذن كيف أخبر ابليس بتكاثر الخلق من ذرية أدم إذ كان لا يرى أمامه إلا مخلوقا واحدا يستكبر وستعلي أن يسجد له؟
وخلاصة القول أن القرآن يخاطب فينا العقول ويدعوها لأن تتقد لكن يحتفظ بغموض وغيبية تتعلق بسر الخلق وسر التكليف
- ﴿ ما أشهدتهم خلق السماوات والارض ولا خلق أنفسهم﴾.
- ﴿ وما أتيتم من العلم إلا قليلا﴾.
3- ﴿ قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى﴾ :
هذه الآية الكريمة توحي بأن معان الخلد والملك معروفتان لدى المخاطب (أدم) الذي قد يكون قد تعلمها فيما علمه الله سبحانه ﴿ وعلم أدم الأسماء كلها﴾. وهو تعليم رباني مباشر يتعدى تلقين الدال والمدلول ليصل لكل العلم اللازم للخلافة والتكليف والاستعمار في الارض.
ثقافة الفناء مثلا كانت سائدة ومعروفة لدى بعض المخلوقات (الملائكة) التي كانت تحتك بهذا المخلوق الجديد ﴿ ويسفك الدماء﴾.
أما القول بأن أدم إنما اكتسب هذا النضج اللغوي والمعرفي من خلال تراكمية في الزمن ونضج في اللغة جاءا نتاجا لسلالة بشرية وطور بشري من الارتقاء إنما يتعارض مع فرضية الاصطفاء التي جئتم بها. ونأخذ كمثل لهذا قصة ابني أدم قابيل وهابيل اللذان كان لديهما مستوى راقي وناضج في اللغة و التفكير وقضايا التكليف من خلال المعان التي أسلفت في مختصر رؤيتكم لقصة الخلق والحقيقة فإني أستغرب ولا أستصيغ معرفتهما لكل تلك المعاني وجهلهم لكيفية الدفن. ألم يلحظا بشرا، بكل معنى الكلمة وبكل ما تحمل الكلمة من معنى لديكم من همجية وتناحر، يقتل أو يموت فيدفن طوال ملايين السنين من طور البشرية؟
خاتمة :
أستاذي الفاضل :
دأب بعض الباحثين على استنطاق الآيات لتفسير ما جاءت به من سوابق وإعجازات علمية قرآنية سبقت ظهور الاكتشافات العلمية الموازية لها. وإني كرهت، وإن كان في ذلك بعض الفائدة، أن يعرض القرآن بقدسيته و قدسية حقائقه لنسبية الأبحاث العلمية التي تتسم بالتغيير.
وإن كنا نتفق على كون نظرية داروين لا تستحق حتى هذا القليل من المداد لتكتب به فإن ما جئتم به يوافق على الأقل مفهومين من مفاهيمها الأساسية : تطور الكائنات عبر تراكمات زمنية رحبة وصراع مخلوقات الجنس الواحد ليتبقى منها الجنس الأصلح والموهوب وينقرض الباقي، تقول النظرية :
"في فترة ما في المستقبل ليست بعيدة بمقياس القرون يكاد يكون مؤكدا أن الأجناس المتحضرة من البشر ستتمكن من استئصال الأجناس الهمجية والحلول محلها في كل أنحاء العالم".
فلهذه النظرية حالات تطبيقية مثل ما حدث في أمريكا بين الأوربيين البيض والهنود الحمر لكن من الخطأ اعتبارها سنة الله في الخلق، فالأصل أن سنة الله التدافع وليس النزاع.
وما حدث من انقراض و استئصال ا ومسخ لبعض الخلق إنما هو تجسيد للإرادة و العقوبة الإلهية, كما قال تعالى :
- ﴿ولقد نادينا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم وجعلنا ذريته هم الباقين وتركنا عليه في الاخرين وسلام على نوح في العالمين، انا كذلك نجزي المحسنين، إنه من عبادنا المؤمنين ثم أغرقنا الأخرين﴾.
- ﴿ حتی اذا بلغ بین السدین وجد من دونهما قوما لا یکادون یفقهون قولا قالوا یا ذا القرنین ان یاجوج وماجوج مفسدون فی الارض فهل نجعل لک خرجا علی ان تجعل بیننا وبینهم سدا قال ما مکنی فیه ربی خیر فاعینونی بقوة اجعل بینکم وبینهم ردما آتونی زبر الحدید حتی اذا ساوی بین الصدفین قال انفخوا حتی اذا جعله نارا قال آتونی افرغ علیه قطرا فما اسطاعوا ان یظهروه وما استطاعوا له نقبا قال هذا رحمة من ربی فاذا جاء وعد ربی جعله دکاء وکان وعد ربی حقا وترکنا بعضهم یومئذ یموج فی بعض ونفخ فی الصور فجمعناهم جمعا وعرضنا جهنم یومئذ للکافرین عرضا﴾.
- ﴿ ولقد علمتُمُ الذين اعتَدَوْا منكم في السَّبْت فقلنا لهم كونوا قِرَدَةً خاسِئين )
- ( قُلْ هل أنَبِّئُكم بشَرٍّ من ذلك مَثوبةً عند اللهِ ، مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وغَضِبَ عليهِ وجَعَلَ منهم القِرَدَةَ والخنازير وعَبَدَ الطَّاغوتَ أولئكَ شَرٌّ مَكَاناً وأضَلُّ عن سواءِ السَّبيل )
- ( فلما عَتَوْا عمَّا نُهُوا عنهُ قُلنا لهم كونوا قِرَدَةً خاسئين )
كما أن لا تطورية في خلق الإنسان إلا كما أسلفت من وصف ﴿ وقد خلقكم أطوارا﴾.
إن ما اتكلتم عليه من براهين علمية إن هي إلا مجموعة من الأبحاث الظنية التي لا ترقى إلى درجة الحقيقة المطلقة بل تفتقد إلى المصداقية والموضوعية والدقة العلمية بين أهل الاختصاص أنفسهم لما اتسم به علم الأحياء من صراع لفرض إيديولوجيات وفسلفات لا تمت للعلم بصلة غرضها الوحيد ترسيخ نظرية داروين واستغلال تجلياتها.
وإني أرى أن لا ضير أن يتعارض العلم بنسبته والنص السماوي بغيبته في زمن من الأزمان على أن لا تكون محاولته التوفيق بينهما على حساب ثبوتية النص الديني.
أبي وأستاذي الفاضل، لقد سمحت لي نفسي فراجعتكم بكل تواضع في رؤيتكم للخلق وبرهنت أبوة أدم عليه السلام للبشر أجمعين من خلال النصوص القرآنية وإن كان في السنة الصحيحة والتفاسير ما يعاضدها, غير أني لم أسترسل فأخوض في مسائل فرعية كمسألة الجنة التي سكنها أدم عليه السلام.
راجيا أن يكون هذا البحث مخلصا لله تعالى وادعوا الله عز وجل أن يرزقنا ثواب الاجتهاد والإصابة ويرزقك طول العمر في خدمة هذا الدين.
مع فائق تحياتي والسلام
الجديدة, في 31/08/2004
ابنكم عبد الحق عقال
طالب باحث لنيل الدكتوراه
في مجال شبكات المعلوميات والاتصالات
كلية العلوم-الجديدة(المغرب).
البريدالإلكتروني :aqqal_abdelhak@hotmail.com
________________________________________
المراجع الإلكترونية :
- رؤية في قصة الخلق لدكتور عبد الصبور شاهين
- الزيف الاشتقاقي لدكتور حمزة بن قبلان المزيني
- خديعة التطور لهارون يحيى
- مقالات في شبكة هجر الثقافية و منتدى الكتاب [/b]