فضاء الإبداع
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

فضاء الإبداع

هذا فضاء للجميع فدعونا نحلق معا في أفق الإبداع
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 حالة عطف

اذهب الى الأسفل 
+3
د. مصطفى عطية جمعة
حنين محمود
عصام الزهيري
7 مشترك
انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2
كاتب الموضوعرسالة
عصام الزهيري
مشرف قسم القصص والروايات
عصام الزهيري


عدد الرسائل : 460
العمر : 51
الجنسية : مصر
تاريخ التسجيل : 12/05/2008

حالة عطف - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: حالة عطف   حالة عطف - صفحة 2 I_icon_minitimeالإثنين 22 ديسمبر 2008, 2:58 am



تلقينا دعوته للعشاء في ليلة باردة من ليالي يناير، كان عشاء رباعيا في مطعم فاخر من مطاعم وسط البلد، الإضاءة خافتة توقف الزمن، تؤبد ملامح الوجوه وهي تبرزها، تجعلها العتمة كأنها خارجة لتوها من بئر ماض مغسولة بظلاله. كنا أربعة من رفقاء الطفولة نتعشى في ضوء باهت ملون يشبه ضوء الشموع في خفوته وموسيقى هادئة تنطلق من أركان خفية تجبر الروح على التأمل، لا صوت يعلو في هذا المكان، لا أدري أن هذا الترتيب من جانبه كان مقصودا لنسف جسور التهريج التي كان من الممكن أن تمتد كالعادة لتعفي الجميع من لحظة اعتراف ومواجهة قاسية مع الذات. تزوج أثنان منا وأصبح لكل منهما مشاعره الحبيسة ونزواته المضغوطة واعترافاته المؤجلة بفعل كثافة استقرار المعيشة وضرورات الحياة والتوازن والاستمرار، كان ذلك تقريبا مبررا للتقارب الزائد بينهما، بقى هو ثالثنا وأنا الرابع طلقاء، هو بدوافع التنقل وقلة الارتواء وحب المغامرة والملل من الاستقرار و - ربما أيضا - قليل من الغرابة في الطباع. وأنا، من تغلبت عليه في النهاية مشاعر العزلة وحب الانفراد بالذات.
في بداية الليلة سألنا عن تخميناتنا حول سبب الدعوة، تذكرت يوم ميلاده، هنأته مع الآخرين، قابل تهنئتنا بابتسامة غامضة قائلا:
- تخمين صائب..لكن ليس هذا هو السبب الأصلي!
"إذن ماذا؟!" تساءلت بيني وبين نفسي متوجسا وأنا ألمح طيف مرارة محوم في نبرته، كذلك لم يسأله أحد، بيننا الكثير من الأمور المشتركة التي جعلتنا على بعد المسافات والمسارات أقرب لبعض، قربا جعلني - وأظن نفس الأمر حدث للآخرين - قادرا على امتصاص نبرته وتمثلها وإفراز فهم خاص ولحظي لمأزقه الذاتي، شعور كل واحد منا بالآخرين كان شعورا غامضا لا تشرحه العبارة لكنه أقرب للتجسد بيننا أكثر من كل شيء آخر. قطع استطردانا بامتعاض مفاجيء قال على أثره:
- سوف أقدم لكم وجبة..وبعد الأكل نتكلم!
أشار للنادل إشارة غاب على أثرها بالداخل ثم عاد يدفع أمامه عربة الطعام. "هناك إذن ترتيب" استطلعت باهتمام الوجبة التي تحدث عنها عندما وضعت في طبق أمامي، لم يكن فيها شيء مميز، طبق عريض مسطح ممتليء بالمكرونة بالصلصة تتوزع على سطحها قطع من أحجام وأنواع مختلفة من لحم الطير والماشية. نظر إلينا نظرة عالم يقدم الدليل العملي على نجاح تجربته، قال بلهجة ممتلئة بما يشبه اليقين:
- اتفضلوا..كلوا!
أكلنا دون كلمة، كنت أريد أن أنتهي سريعا لكن دافعا قويا داخلي كان يجبرني على التمهل والمضغ بهدوء لإطالة وقت العشاء أطول مدة ممكنة. بعد أن رفع النادل الأطباق كان واضحا أنه يريد أن يندفع في الحديث، قال:
- انظروا..ببساطة..كل واحد منا يؤكد ذاته في أدق التفاصيل..أليس كذلك؟!
استعرضنا بنظرته قبل أن يبدأ بي:
- أنت تأكل بعجلة لا تنتقي أصابعك ما تأكل كأنك لا تميز ما وضع أمامك..لكنك بعد أن يصبح الأكل في فمك تمضغ ببطء وتمعن ظاهر!
دهشت لاقتحامي على هذا النحو المفاجيء والصريح، تماسكت كي لا أفكر فيما قال وسألته بثقة واستهزاء:
- كويس وبعدين!
لكنه انتقل مباشرة إلى صديق آخر:
- وأنت تنتقي ما تأكل..افضل القطع، أنعمها في المضغ وأطيبها في المذاق، لكنك تزدردها بشره لتأتي على ما بعدها!..أما أنت..
توقف قليلا وهو ينتقل بنظره لصديقنا الرابع، واصل:
- تأكل كأنك ترى ما تأكله لأول مرة..ويبدو إحساسك بمذاقه في عينيك كما تظهر الصور على شاشة التلفزيون!
ابتسم الصديق وهز رأسه بانفعال مؤمنا، قال له:
- ياعيني على الفلسفة..اشتغل عرّافة أحسن!
لكنه داس على السخرية، تجاوزها وسألنا:
- والآن حان دوركم لتجيبوني: كيف ترون طريقتي في الأكل؟!
أذهلني سؤاله بوضوح، راجعت ذاكرة اللحظات الفائتة وذاكرتي البعيدة أيضا ولم أجد شيئا، من باب القول الذي يمكن أن يجر ما بعده قلت له:
- أنت تأكل كالملهوف!
لم يكن كلامي دقيقا، بل ربما لم يكن حتى حقيقيا، لكني دهشت من نفسي وأنا أؤكد له:
- تأكل كأنك لا تتذوق ما تأكله!
ودهشت أكثر حين سمعت صديقنا المتزوج يستطرد على كلامي:
- أكل العزاب والمجندين!
وأومأ الثاني مازحا لكن مؤكدا بدوره:
- كلام حقيقي..لكن ما القصد من وراء هذا الحديث!!
أجاب فورا:
- أؤكد لكم ولنفسي أني كما أنا..أجرى وراء السعادة ولا أنالها ولو في وجبة طعام!
- السعادة؟!..هي فين؟!
سألته ساخرا، كان قصدي أن أنفي وجود هذا الوهم المكتمل الذي يتداوله البعض ويتشوق له الكثيرون. لم أقصد أن أسخر من طريقته في تناول المسألة أو من قلة إحساسه بالسعادة كما فسرت فيما بعد صمته وإعلانه نهاية العشاء بصورة مفاجئة. بعد هذه الليلة لم يتكرر لقاؤنا الرباعي، لكننا عرفنا بعد شهور أنه تزوج، وبعد شهور أخرى أنه طلق المرأة التي تزوجها وتزوج أخرى، أنجب من الأخرى طفلا وسافر إلى أوربا حيث انقطعت أخباره. لكني لم أكف أبدا منذ ليلة العشاء عن تعذيب نفسي بسؤال لم أوجهه أبدا للآخريّن: هل كان لانتقامنا من مفاجأته لنا دخل فيما تلا هذه الليلة من أحداث؟!

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عصام الزهيري
مشرف قسم القصص والروايات
عصام الزهيري


عدد الرسائل : 460
العمر : 51
الجنسية : مصر
تاريخ التسجيل : 12/05/2008

حالة عطف - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: حالة عطف   حالة عطف - صفحة 2 I_icon_minitimeالأربعاء 24 ديسمبر 2008, 12:29 am



يبدو أن الليلة كانت طويلة جدا وتوحي بأنها لن تنقضي أبدا، لدرجة أن المرء يمكن أن ينسى خلاها التفكير في النوم ويعتقد بأنه سيواجه بأصعب اللحظات، لكن يبدو أيضا أنني نمت قليلا وأنا جالس، رأسي سقط ببطء على جانب صدري عندما سمعت طرقا طويلا على الباب، لم أكن أنتظر أي أحد أو أي شيء يجعل أي أحد يطرق بابي في مثل هذا الوقت المتأخر، سألت بصوت منخفض : "من؟!"، أجاب مباشرة: "كابوسك!". فتحت الباب بوجل فرأيته لوحده فعلا، زيه الأزرق وجديته وقلة اهتمامه بمظهره جعله يبدو كأحد عمّال الصيانة طلب من أجل إصلاح شيء في المنزل ورغم أنه أتى ملبيا وعلى أهبة الاستعداد إلا أنه لم يصحب معه أي عدة، لم يكن معه شيء من كل هذه الأشياء التي يمكن أن تصاحب وجوده في الحجرة، باستثناء رأس صغير لمشنوق ظلت معلقة ليلة بأكملها في سقف بسلك كهربائي يخص المصباح بال عليه الذباب، فيما ظهر من خلفه نمس صغير أطلق ساقيه للريح، جري النمس وأنا من وراءه أطارده لكنه زاغ مني في ظلام المزارع، أدركت على الفور أن هذه الأشياء القليلة التي اصطحبها معه لم تكن تخصني لكنها تخص ذكرى قديمة لأخي الذي سافر في زيارة عمل لمدينة في أحد الأقاليم لكنه استقر هناك ولم يعد، كان أخي هذا يصحبني في مشوار يخصه وحده خلال نهار الصيام في رمضان، وأنا كنت صبيا، وكان لابد أن يتركني في مكان ما من الشارع، لكنه اقترح أن أبقى في محل للحلويات، قلت له وأنا أصطنع الشهامة: "لكني صائم!" فأخذ يقنعني بأن أتخلى عن تعذيب نفسي بلا فائدة لأن الله لن يقبل صيام صبي مهما كان، وقال إنه لا وزر عليّ مطلقا لو أفطرت في هذا اليوم الحار على الحلويات، سألته ببراءة: "وهل تأكل معي؟!" فقال بخبث: "لكني كبير!"، ولم تقنعني إجابته فتمسكت بصيامي، لكنه ضحك باستخفاف وتركني في محل الحلويات وقال لأحد ما بصوت عال: "هات له كل ما يطلبه!" ولم يقل ماذا يحدث لو لم أطلب شيئا، وأنا ظللت متماسكا لا أطلب أي شيء، حتى جاء الرجل وسألني إن كنت أطلب فانهرت وطلبت وأنا أخطط للانتهاء سريعا من أكل الحلوى قبل أن يأتي فأستمر من ثم في إدعاء الصيام. وفعلا أكلت بسرعة، لكن قبل أن أنتهي أتى الرجل مرة أخرى وسألني إن كنت أفضل شرب العصير فوافقت على الفور، عندما جاء العصير كنت أنتهيت من الحلوى ورفعت الأطباق، لكني لم أنته من العصير حتى رأيت أخي عائدا، سأل الرجل عن الحساب قبل أن يصل إلي، ويبدو أن الفاتورة كانت باهظة لأن ذلك بدا عليه بصورة ما، وأنا سألته ببراءة مصطعنة بعد أن خرجنا من المحل إن كان العصير يفطر الصائم، في إيحاء بأني لم أتناول أي حلوى، معتقدا أن الجهل المفضوح قد يشفع لي في صمته على قلة صيامي، ثم استطردت لأنه لم يجب عن سؤالي بكلمة شاكيا له من رجل الحلويات وإلحاحه علي ضرورة طلب شيء، وأني اضطررت خوفا من الطرد من المحل لطلب العصير، واضطررت لقضاء كل هذا الوقت في انتظاره لشربه، وهو لم يعلق بأي شيء على كل ما أسلفت، فقط راقب كذبتي وهي تتضخم ثم قال باترا:"أنت تتكلم كثيرا!". ظللت صامتا حتى عدنا إلى البيت ولم أسأل نفسي أو أسأله:"أين كان عندما تركني وذهب؟ ولماذا لم يصحبني معه إلى المكان الذي ذهب إليه؟". لكننا ما إن وضعنا أقدامنا في الدار حتى أخذ يسخر من ضعفي وقلة صبري على الصيام، وهو ما جعل رأسي يترنح بمشاعر المغدورين والمطعونين من الخلف، سبب ذلك شرخا طويلا في علاقتنا الأخوية، شرخ ظل يتسع ويخشن ويتجوف كشرخ في ساق شجرة يجف نسغها، وأطل وجه الكابوس من هذا الشرخ البعيد فجأة، بدا كسنجاب صغير من هذه السناجب المظللة العيون التي تظهر في الرسوم المتحركة، نظر إلي بعينيه الصغيرتين الخرزيتين ثم اختفى في الشق وتسلق الشجرة من جوفها للأعلى عاجنا من دقيق ذاكرتي الذي أصبح نهبا مهولا ومشوشا صورة أخرى: في الأعلى كان هناك نبق كثير، وأنا أسفل الشجرة أنتظر، كنت أرتدي بدلة ضابط كاملة أتى بها أخي هدية لي من بورسعيد، وقال لي الكابوس أنه سوف يصعد ليحضر لي النبق الذي أحبه، وأنا وقفت أنتظر، مجرد وقوف وانتظار، لم أفعل شيئا من قبل ولا من بعد، وما إن امتدت يده على أول نبقة وجرى ريقي حتى رأيته طفلا صغيرا في مدرسة "المعسكر" الإبتدائية، ثم سقط الطفل من فوق الشجرة على ظهره، كانت سقطة فظيعة حطمت له فقرتين في سلسلة ظهره وهددته بكساح نجا منه بصعوبة، وأنا الذي كنت فرحا ببدلتي الضباطيه منذ لحظة واحدة نلت توبيخا عنيفا كاد يتحول إلى ضرب من المشرفة الاجتماعية، لم أدر وقتها ما هو ذنبي أو كيف كنت سببا في صعود الطفل للشجرة وفي انهياره من أعلاها، هو الذي قال وهو الذي فعل، لكن المشرفة الاجتماعية كانت متأكدة من مسئوليتي حتى أنها طالبت بفصلي نهائيا من المدرسة، لم أفهم وقتها كيف حدثت هذه المخايلة في ذهن المشرفة بين الزي الطفولي الذي كنت أرتديه وبين سلطة الضباط الآمرة، لذلك هي تخيلت أني من أمره بالصعود وأنه استجاب شأن كل من يستجيبون لأصحاب الأزياء الشرطية، ناسية أن الناس عندنا ما عادوا ينتظرون حتى يأمرهم هؤلاء بأشياء ولكنهم يفعلونها من تلقاء أنفسهم مدفوعين بمشاعر الأنذال التي تشبه الإحساس بالعار. ذهبت المشرفة والناظر وذهبت معهم وذهب الأشخاص المتجمعين معنا، وذهب الطفل بفقراته المكسورة في الإسعاف، ولم يبق معي سوى الكابوس، كان هناك يتمرغ في الأرض وحيدا وجريحا، ومشاكسا أيضا لأنه لم يكن يهتم بكل هذا التراب الذي علق بزيه الرسمي.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
حالة عطف
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 2 من اصل 2انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
فضاء الإبداع :: القصة والرواية-
انتقل الى: