تلقينا دعوته للعشاء في ليلة باردة من ليالي يناير، كان عشاء رباعيا في مطعم فاخر من مطاعم وسط البلد، الإضاءة خافتة توقف الزمن، تؤبد ملامح الوجوه وهي تبرزها، تجعلها العتمة كأنها خارجة لتوها من بئر ماض مغسولة بظلاله. كنا أربعة من رفقاء الطفولة نتعشى في ضوء باهت ملون يشبه ضوء الشموع في خفوته وموسيقى هادئة تنطلق من أركان خفية تجبر الروح على التأمل، لا صوت يعلو في هذا المكان، لا أدري أن هذا الترتيب من جانبه كان مقصودا لنسف جسور التهريج التي كان من الممكن أن تمتد كالعادة لتعفي الجميع من لحظة اعتراف ومواجهة قاسية مع الذات. تزوج أثنان منا وأصبح لكل منهما مشاعره الحبيسة ونزواته المضغوطة واعترافاته المؤجلة بفعل كثافة استقرار المعيشة وضرورات الحياة والتوازن والاستمرار، كان ذلك تقريبا مبررا للتقارب الزائد بينهما، بقى هو ثالثنا وأنا الرابع طلقاء، هو بدوافع التنقل وقلة الارتواء وحب المغامرة والملل من الاستقرار و - ربما أيضا - قليل من الغرابة في الطباع. وأنا، من تغلبت عليه في النهاية مشاعر العزلة وحب الانفراد بالذات.
في بداية الليلة سألنا عن تخميناتنا حول سبب الدعوة، تذكرت يوم ميلاده، هنأته مع الآخرين، قابل تهنئتنا بابتسامة غامضة قائلا:
- تخمين صائب..لكن ليس هذا هو السبب الأصلي!
"إذن ماذا؟!" تساءلت بيني وبين نفسي متوجسا وأنا ألمح طيف مرارة محوم في نبرته، كذلك لم يسأله أحد، بيننا الكثير من الأمور المشتركة التي جعلتنا على بعد المسافات والمسارات أقرب لبعض، قربا جعلني - وأظن نفس الأمر حدث للآخرين - قادرا على امتصاص نبرته وتمثلها وإفراز فهم خاص ولحظي لمأزقه الذاتي، شعور كل واحد منا بالآخرين كان شعورا غامضا لا تشرحه العبارة لكنه أقرب للتجسد بيننا أكثر من كل شيء آخر. قطع استطردانا بامتعاض مفاجيء قال على أثره:
- سوف أقدم لكم وجبة..وبعد الأكل نتكلم!
أشار للنادل إشارة غاب على أثرها بالداخل ثم عاد يدفع أمامه عربة الطعام. "هناك إذن ترتيب" استطلعت باهتمام الوجبة التي تحدث عنها عندما وضعت في طبق أمامي، لم يكن فيها شيء مميز، طبق عريض مسطح ممتليء بالمكرونة بالصلصة تتوزع على سطحها قطع من أحجام وأنواع مختلفة من لحم الطير والماشية. نظر إلينا نظرة عالم يقدم الدليل العملي على نجاح تجربته، قال بلهجة ممتلئة بما يشبه اليقين:
- اتفضلوا..كلوا!
أكلنا دون كلمة، كنت أريد أن أنتهي سريعا لكن دافعا قويا داخلي كان يجبرني على التمهل والمضغ بهدوء لإطالة وقت العشاء أطول مدة ممكنة. بعد أن رفع النادل الأطباق كان واضحا أنه يريد أن يندفع في الحديث، قال:
- انظروا..ببساطة..كل واحد منا يؤكد ذاته في أدق التفاصيل..أليس كذلك؟!
استعرضنا بنظرته قبل أن يبدأ بي:
- أنت تأكل بعجلة لا تنتقي أصابعك ما تأكل كأنك لا تميز ما وضع أمامك..لكنك بعد أن يصبح الأكل في فمك تمضغ ببطء وتمعن ظاهر!
دهشت لاقتحامي على هذا النحو المفاجيء والصريح، تماسكت كي لا أفكر فيما قال وسألته بثقة واستهزاء:
- كويس وبعدين!
لكنه انتقل مباشرة إلى صديق آخر:
- وأنت تنتقي ما تأكل..افضل القطع، أنعمها في المضغ وأطيبها في المذاق، لكنك تزدردها بشره لتأتي على ما بعدها!..أما أنت..
توقف قليلا وهو ينتقل بنظره لصديقنا الرابع، واصل:
- تأكل كأنك ترى ما تأكله لأول مرة..ويبدو إحساسك بمذاقه في عينيك كما تظهر الصور على شاشة التلفزيون!
ابتسم الصديق وهز رأسه بانفعال مؤمنا، قال له:
- ياعيني على الفلسفة..اشتغل عرّافة أحسن!
لكنه داس على السخرية، تجاوزها وسألنا:
- والآن حان دوركم لتجيبوني: كيف ترون طريقتي في الأكل؟!
أذهلني سؤاله بوضوح، راجعت ذاكرة اللحظات الفائتة وذاكرتي البعيدة أيضا ولم أجد شيئا، من باب القول الذي يمكن أن يجر ما بعده قلت له:
- أنت تأكل كالملهوف!
لم يكن كلامي دقيقا، بل ربما لم يكن حتى حقيقيا، لكني دهشت من نفسي وأنا أؤكد له:
- تأكل كأنك لا تتذوق ما تأكله!
ودهشت أكثر حين سمعت صديقنا المتزوج يستطرد على كلامي:
- أكل العزاب والمجندين!
وأومأ الثاني مازحا لكن مؤكدا بدوره:
- كلام حقيقي..لكن ما القصد من وراء هذا الحديث!!
أجاب فورا:
- أؤكد لكم ولنفسي أني كما أنا..أجرى وراء السعادة ولا أنالها ولو في وجبة طعام!
- السعادة؟!..هي فين؟!
سألته ساخرا، كان قصدي أن أنفي وجود هذا الوهم المكتمل الذي يتداوله البعض ويتشوق له الكثيرون. لم أقصد أن أسخر من طريقته في تناول المسألة أو من قلة إحساسه بالسعادة كما فسرت فيما بعد صمته وإعلانه نهاية العشاء بصورة مفاجئة. بعد هذه الليلة لم يتكرر لقاؤنا الرباعي، لكننا عرفنا بعد شهور أنه تزوج، وبعد شهور أخرى أنه طلق المرأة التي تزوجها وتزوج أخرى، أنجب من الأخرى طفلا وسافر إلى أوربا حيث انقطعت أخباره. لكني لم أكف أبدا منذ ليلة العشاء عن تعذيب نفسي بسؤال لم أوجهه أبدا للآخريّن: هل كان لانتقامنا من مفاجأته لنا دخل فيما تلا هذه الليلة من أحداث؟!